قصة قصيرة:
إحتد النقاش بين طلاب قسم الفلسفة حول مفهوم الواقعية. أحمد القى محاضرة ادعى فيها ان النقاش الدائر حول الواقعية يفتقد لتحديد دقيق للفلسفة الواقعية التي يقصدها زملائه الطلاب . تابع شارحا وملفتا النظر لمعلوماته الواسعة بان هناك أشكال متنوعة من المفاهيم الفلسفية للواقعية، التي تطورت في اطارها مدارس فلسفية مختلفة وأضاف ان النظريات المختلفة في الفلسفة عن الواقعية، بدأت بما يعرف ب "الواقعة" (fact) كمفهوم فلسفي ومنطقي يتعامل مع الأحداث الموضوعية ، روابط الموضوعات، تفاعلها والتغيرات الحاصلة نتيجة التراكم او التفاعل ، الى جانب حقائق مجربة ومؤكدة علميا.
مرشد قاطع أحمد ، "ليبرز نفسه" كما علقت بسخرية فاتنة ، اذ انه قطع اندماجها مع حديث أحمد الشيق .قال:" ان الواقعية تعرف نظريات متنوعة منذ الفلسفة الاغريقية وصولا الى العصر الوسيط وحتى عصرنا الراهن . لكنه لم يورد أي نموذج يمكن اعتماده في شرح موقفه بشكل "فلسفي ومنطقي" ، حسب تعبير المحاضر عندما كان يعلق منتقدا إجابات الطلاب التي لا تعتمد على مراجع تؤكد ما يورده الطالب.
حافظ أحمد على صمته، مشغلا فكره كما يبدو وبعد ان وجد فرصة هدوء مناسبة أضاف فارضا الصمت لسماعه: مفهوم الواقعية حظي باهتمام الفلاسفة الإغريق مثل أفلاطون وأرسطو..وكان هناك فلاسفة في العصر الوسيط طوروا مختلف النظريات عن الواقعية، حتى وصلنا الى القرن العشرين، لنجد ان فلسفة الواقعية ، أصبحت أحد المواضيع البارزة في الفلسفات الحديثة، مثلا تطورت الواقعية الجديدة التي تدمج بين الموضوعي والذاتي الواقعي والذهني وذلك في اطار نظرية المعرفة. كان الادعاء الأساسي في هذه النظرية الفلسفية التي عرفت باسم الواقعية الجديدة، تعتمد على التجربة. ثم تطورت نظرية الواقعية النقدية، التي أعتقد انها الأرقى والأكثر تركيبا.. وهذا التيار يؤكد على الخصوصية النوعية للوعي والمعرفة الإنسانية وحسب طروحاتهم تتشكل هذه المعرفة النوعية من ثلاثة عناصر: الذات، الموضوع والمعطيات التي على أساسها تبنى المعرفة حسب نظريتهم. اضاف ساخرا: بالطبع لا أنصحكم بقبول أي نظرية قبل الإلمام بكل نظريات المعرفة ودراستها.
ساد الصمت بعد هذا الشرح المفاجئ،الذي نقل الطلاب من أفكار أولية حول الواقعية، إلى جو يبدو لهم صعبا ومليء بالقفز فوق الحواجز الغير سهلة، لكنهم اعتادوا على مصاعب الفلسفة وإنها مجرد حالة تسبق الفهم الصحيح للموضوع، بعدها يصبحون "منظرين ونقاد فلسفيين"، كما يصفهم سعيدا أستاذ الفلسفة.
فجأة ارتفع صوت فاتنة: صفقوا لأحمد لأنه قدم لنا درسا لفهم الفلسفة بأنها ليست من الأوهام التي نشانا عليها وان تفسيرات جدتي وجداتكم يجب ان نتركها خارج قاعة الفلسفة.
ابتسم أحمد بسعادة وعيناه تتعلقان بفاتنة ، التي فتنته منذ بداية الفصل الدراسي الأول ، لكنها تتصرف مثل جنرال في ساحة حرب، جميلة وقاطعة في قراراتها.هذا يجعلها أكثر سحرا وفتنة ويجعل أحمد أكثر ترددا ووجلا قبل ان يتجرأ على طرح إعجابه. لكنه ، لسبب لا يدريه، قرر ان يضيف حكاية مقلدا أستاذ الفلسفة في سرد قصة فلسفية تلائم الموضوع ، لتسهيل فهمه ـ او لخلق جو مرح يخفف من مصاعب الدراسة، عبر قصة تظهر المفارقة بين موضوع الدرس والحكاية.
إهتم أحمد بان يرى ابتسامة فاتنة تشرق، لابتسامتها فعل السحر في قلبه وربما ليثبت لها انه ليس مجرد "ولد شاطر" في دروسه، بل خفيف دم أيضا. قال موجها حديثة لها: لدي يا فاتنة قصة عن الواقعية، ارجو ان تسمحوا لي بقصها . ساد الصمت . قالت فاتنة: كلنا نصغي لك. المحاضر هز رأسه موافقا. قال: قصة ساخرة عن الفلسفة الواقعية بالتطبيق وتتحدث عن ثلاثة محققين شباب جدد وصلوا لقسم التحقيقات في الشرطة. مدير القسم قرر، قبل ان يوزعهم على مكاتب قسمه، ان يفحص ما تعلموه في مدرسة الشرطة ومدى جاهزيتهم للعمل في قسمه.. أراد فحص قدراتهم على التحقق من مميزات هوية الجناة، من قدراتهم على تشكيل نظرة واقعية...
أخرج من جارور مكتبه صورة وقال للمحقق الشاب الأول:
- هذه صورة المتهم الذي تطارده... كيف ستتأكد من شخصيته؟
وأظهر له الصورة لخمسة ثوان فقط.
أجاب المحقق الشاب:
- هذا سهل.. توجد له عين واحدة فقط.
قال مدير القسم:
- ايها المحقق انا أريتك صورة جانبية لوجه المتهم وبهذه الحالة لن ترى الا عيناً واحدة.
نفس الأمر جرى مع المحقق الشاب الثاني.. أظهر له الصورة لخمسة ثوان فقط وقال له:
- هذه صورة المتهم الذي تطارده... كيف ستتأكد من شخصيته?
ابتسم المحقق الشاب الثاني وقال بثقة:
- أوه.. من السهل القبض عليه.. لأن له اذناً واحدة.
غضب مدير قسم التحقيقات من الإجابة الثانية أيضاً وقال بنرفزة:
- ما الذي يجري هنا ؟ من الواضح ان الصورة الجانبية لا تعطينا الا رؤية عينا واحدة وأذناً واحدة. هل هذا هو أفضل ما لديكما؟ هذه هي حدود فهمكما للواقع ؟
بغضب بارز طلب من المحقق الشاب الثالث ان يتأمل الصورة نفسها وسأله بنفاذ صبر:
- هذه صورة المتهم الذي تطارده... كيف ستتأكد من شخصيته؟
ركز المحقق الشاب الثالث تفكيره وابتسم وأجاب:
- المتهم يضع عدسات لاصقة..
المدير لم يكن مستعداً لمثل هذا الجواب الجديد، لأنه حقاً لا يعرف اذا كان المتهم يضع عدسات لاصقة، لكنه سعد لهذا الجواب الجديد من المحقق الشاب الثالث الذي يشير الى محاولة استعمال الفراسة الشخصية. قال:
- جواب مثير حقاً.. انتظروا قليلاً، سأفحص ملف المتهم صاحب الصورة.
دخل للحاسوب، بحث عن ملف المتهم. قرأ مقاطع من الملف وبانت ابتسامة على شفتيه:
- أمر لا يصدق.. هذا صحيح.. المتهم حقاً يضع عدسات لاصقة، تشخيص واقعي ممتاز. قل لنا، كيف استطعت ان تستنتج مسألة كهذه؟
أجاب المحقق الثالث:
- مسألة بسيطة سيدي القائد.. الشخص في الصورة لا يستطع ان يضع نظارات عادية لأن له عين واحدة وأذن واحدة!!
- * (نص محسن ومصاغ من جديد عن نص سابق للكاتب)
0 comments:
إرسال تعليق