الذاكرة هي المدونة الأولى في تاريخ الإنسان، وهي شاهدة ومتفاعلة معه، منذ أمسك بالمسمار، والإزميل، والمنقاش، والقلم، وهو يكتب تاريخه منقوشاً، ومحفوراً، ومدوناً على رقوق الجلد، وعلى رقائق الخشب، وعلى ألواح العاج، وعلى سطوح الأحجار والصخور، وعلى قوالب الطين، وعلى شقف الفخار إلى أن أصبح مطبوعاً على الورق، ومسجلاً على الأشرطة، ومحفوظاً في الأسطوانات الممغنطة!
الذاكرة ذات قيمة عظمى، سواء كانت ذاكرة العقل، أو ذاكرة الحاسوب؛ فلا تاريخ بلا ذاكرة، ولا ذاكرة بلا تاريخ!
المأساة ان كثيرين يهملون الذاكرة حية كانت أو محفوظة ؛ فيحرمون أنفسهم من ثمارها، التي قال عنها جيمس باري، مؤلف كتاب: بيتربان:
"لقد أعطانا الله الذاكرة لكي تكون لنا ورود في ديسمبر"!ان ما نجنيه كل يوم من اشواك مؤلمة، يبذرها لنا حكامنا، يعود إلى انهم وان قرأوا التاريخ، فهم ينتزعونه عن الذاكرة، حتى انهم يمارسون نفس الاخطاء التي تداركها، بعد فوات الاوان، الذين اقترفوها قبلهم!
تعالوا إلى ذاكرة التاريخ؛ لنأخذ مثالاً واحداً..
هناك.. في منفاه.. بعيداً عن العالم الذي تربع على قمته بعد هزيمته في وترلو، وطرده إلى جزيرة سانت هيلانة النائية، جلس نابليون بونابرت وحده، وقد تخلى عنه الجميع، يتأمل ويفكر في حياته الماضية، وموته الوشيك.
وهناك كتب إلى صديقه الجنرال برتراند، هذه السطور: "الاسكندر الأكبر.. قيصر العظيم.. شرلمان القوي.. وأنا..، أقمنا الامبراطوريات.. اقمناها بقدرة وعبقرية، واسسناها على: القوة، والبطش، والسلاح... أما المسيح، فقد أقام امبراطوريته وأسسها على الحب.. وحتى هذه الساعة يموت الملايين لأجل اسمه"!
لم يتعلم العالم إلى اليوم ممارسة المحبة، التي نادت بها المسيحية منذ أكثر من ألفي عام!
ولم يحاول حكامنا، تفعيلها، حتى بعد قراءة ما كتبه من كان من أعظم قواد العالم!
حكامنا الذين يستخدمون القوة الغشوم، وسفك الدماء، وهم يظنون أن مملكتهم دائمة إلى أبد الدهر!
وان تحدث أحدهم عن الحب والمحبة، كما فعل رئيس كل الاخوان، في أول خطاب له بعد تنصيبه رئيساً لمصر، حين قال: "أهلي وعشيرتي أحبكم جميعاً"!
فهو يتحدث عن حب من حروف .. وليس عن المحبة التي عبّر عنها فيلسوف المسيحية القديس بولس في انشودته الخالدة، قائلاً: " المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تُقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالاثم، بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء...".
أيها الحكام، على عروش أوطاننا، عودوا إلى الذاكرة، وتعلموا أن تمارسوا قوة المحبة المضحية؛ فهي اليد السحرية التي تضمد الجراح، وهي الكيمياء المعنوية التي تمزج معادن الشعوب المتخالفة؛ فتخلق منها كتلة واحدة متحالفة: للتعمير والبناء والحضارة!...
0 comments:
إرسال تعليق