على طريقٍ بعيد (5 ـ الأخيرة) 1987/ شوقي مسلماني


1 ـ ضفّةُ جُرْح
عندما تقف عاجزاً عن فِعْلِ شيء، وتشعر أنّ الأيّام يرفعُها سيّاف يهيل بها على هامتِك، وتقتحمك الدقائق والثواني مثل آلاف الإبر تنخر عظام جسمك المُتعَب من هولِ الصمت والعجز وقِصَر اليد، تعرف أنّك على أعتاب زمن متكرِّر، مُظلم، نازل من منخري متشعوذ، وتعرف أنّك مُحاصَر، تنتصب حولك شرائع غاب مثل أشباح في غابة أو صحراء جافّة تدعوك كثبانُها إلى التضاؤل والغرق والذوبان إلى الأبد.
الكلابُ وحدها في الشوارع تتربّص بذي الضمير الحي وبعظامِ الهياكل التي كانت بشراً يكسوها لحمٌ لمّا كان للكلمة معنى وللفكرة معناها وللعقل تقديره واحترامه، الكلابُ وحدها لها حقّ السيادة والكلمة، ووحدها التي تتّقن فنَّ طأطأةِ الرأس والتمسّح بأذيال الأقوياء وطلبِ البركة وتقبيلِ الأيدي واللحى والسيرِ في مواكب الأذلاّء.
في الزمن الذي تغيب معالمُه ويتلبّس عفَنَ عصورِ القهر والخنوع وتستلبُه أرواحُ المقابر الدارسة ومتاحفُ التاريخ لا مكان للإنسان كقيمة ولا اجتماع ولا تطوّر ولا حضارة ولا إرادة، فقط أداة هي ذاتها منذ الأزل، ويقبعُ العقلُ صامتاً في زاوية أو يُقمَع وتُنحَر كلّ المفاهيم التي تحاول ملكاً في عالمِ الرؤيةِ الشاملة للماضي والحاضر والمستقبل، وتؤسّس لغد أفضل بلا قضبان وبلا سيّافين وجلاوزة وبلا حاشية وبلا فقراء، ويصير العقلُ عنوان شقاء يتبعه الغاوون والمجانين والإنتحاريّون والكفّار بنعمةِ الصمت والغباء والتلطّي، ويصير العقلُ آفة يقربُها من بلا عقل، العاقلُ فقط هو الذي يحمل صكّ براءته فوق رأسِه من أي منطق وأي واقع وأي معرفة وجذور، ويمشي مثل الساهمة مع القطيع إلى لا حول ولا قوّة إلاّ بالسلاطين والأمراء ومن لا يرون إلاّ العالم يتنفّس من خياشيمهم.
ولكن من أين للجهل هذا الحضور الذرّي؟ ومن أين للقهر هذه القدرة "الإلهيّة" على كمّ الأفواه وافتراض ما لا يُفتَرض والتجدّد الدائم ومقارعة كلّ جديد مهما كان قويّاً ومقنعاً ومهمّاً وضروريّاً؟ ومن أين للظلاميّة بُدعة الكياسة و"الملائكيّة" في اختراق الكلمة وتفجيرها من الداخل ودوسها بالأقدام؟ ومن أين لها قوّة التنفّس مع مسامات جلودنا والسكن في عيوننا وعصبِها وثملِها ومسخِنا وحوشاً آدميّة تحتكر مزيّة التدمير والتحطيم والقتل والإبادة الجماعيّة المنظّمة؟.
هو كذلك معظم تاريخنا الذي مضى، وهو كذلك حاضرنا الذي أفردَ عقلَه كبعير أجرب. وصدقتْ حكمةُ الذي قال: "بئس أمّة ليس فيها أبطال".
*** ـ

2 ـ زمن اغتيال العقل
يغيب العقلُ ويغيب
وحينما نتوسّم عودته في لحظة رجاء
يمدّد إجازته فتطول وتطول
والقيود من بدع القبائل والطوائف تضيق حول العنق
في هجير الصحراء المترامية على مدى سنوات من الحرب
ليس فيها إلاّ رمال محرقة تتدثّر برمال محرقة
وأفاعي تنتصب كأنّها قشّة خلاص يتوهمها الطير المتعب
فتصدمه الحقيقة

هي حرب يأكل فيها الفقراءُ الفقراءَ
هي إمعان المشرّدين في دروب التشرّد
في زمن اغتيال العقل
في حضرة البطون الممتلئة
والعيون المسترخية
وأسود المنابر
فوق الجماجم البشريّة

لا يهم الدم سيلاً في قنوات الأزقّة
لا يهم ما دمنا اعتدنا
وصار ذلك ممّا يغري الساديّة فينا

في غياب العقل لا شيء غير معقول
ولا شيء غير مقبول ولا شيء غير مجاز
إلاّ جواز العقل في المعقول وأن يقول ما يجب أن يقول

أيّها الفقير المهان
عدوّك يجثم على القلب
أيّها المشرّد المهان
تعلّم كيف لا تُطعن من الخلف
واحفظْ وجوه اعدائك الحقيقيين
حيث كنتَ وحيث هيهات تكون

متى نقدح شعلةَ العقل
في الزمن اللامعقول.
*** ـ

3 ـ آدم السماء وآدم الأرض
يا صاحبي، أنا من فقدَ نعمةَ الدهشة
الأشياءُ لم تعد ذكرى تُستعاد عند أوّلِ تساقطِ غيث وعبقِ تراب
أو أوّلِ هبوبِ نسيمٍ وتفتّحِ وردة، وهذا، أجزمُ، يُحزنني
ليس لأنّ الأشياء ظلّلها النسيان وصارت باهتة ومظلمة
لكن لأنّي كالآلهة صرتُ أعرف، صرتُ أكره، صرت آدم، ولم أكن كذلك.
**

انتشلْ سؤالاً، وارسمْه على وجهك ابتسامةَ هزءٍ أو إتّساع حدقة
لأنّك أوّل عهدك بكيد الساقطين، وأوّل عهدك بالهموم والوساوس
ولأنّك آدم السماء وأنا آدم الأرض
هل أتاك حديثُ الأنياب وهي تطعن؟
هل أتاك حديثُ اللصوص ومن لا قرار لأطماعهم
الذين يرغبون، دون بسمةِ الطفل، بالشمس مدفونة في دورِهم الكبيرة؟
هل أتاك حديث الصنم وأنت تخرّ له حتى ذقنِك ليغفرَ لك؟
هل أتاك حديثُه فيما تشتعل عيناه وتنطفئان رضواناً عليك؟.
**

يا صديقي
الدهشةُ ماتت في عيني
لكنْ حسبي أنّ العالم حيّ.
*** ـ

4 ـ آب 1945
هيروشيما، تسقط الدمعة الأخيرة
هيروشيما، تذوي الروح انكساراً
هيروشيما، وجه أمّي على أشلاء الضحايا
خصلةُ شعركِ احترقتْ
فمن يقف دقيقة صمت على موت الحضارة
هيروشيما عربون وفاء
يسودُ الحزنُ في شوارعكِ
وآبُ كلِّ عام يرتاب بأصنام الحريّة
وترعبه الإعلانات الزائفة عن حقوق الإنسان
هيروشيما، أيّتها المدينة التي تجتاحك عاصفة لهب

هيروشيما
"أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد".
Shawki1@optusnet.com.au

CONVERSATION

0 comments: