" الحرية تستطيع أن تصارع وتناضل وتصبح قوة سياسية وتاريخية"[1]
يعد مفهوم السياسية الحيوية مركز الثقل في النظرية الإتيقية المتأخرة عند ميشيل فوكو بالرغم مما يثيره من إحراجات ومزالق داخل النسق العام الذي تتنزل فيه فلسفته البنيوية وتطبيقاتها الأركيولوجية ضمن المنهج التشخيصي الذي شرح به الأنظمة المعرفية للثقافة الغربية.
لعل أهم الأسئلة التي يطرحها فوكو في هذا الصدد هي: ما علاقة السياسة بالحياة؟ وهل يمكن اختزال السياسة في ممارسة السلطة؟ وكيف يمكن حصر السلطة في الحياة؟ وهل السياسة الحيوية هي مجموعة السلطات الحيوية المبثوثة بشكل مجهري في الشغل واللغة والجسد ؟ وكيف تتجسد السياسة الحيوية في سلطة مضادة وفي مكان انتاج الذاتية الرافضة لكل أشكال الخضوع؟ أي دور للرغبات والجنسانية والمقاومات والمؤثرات في التصدي لضغوط المجتمع الانضباطي؟
من المعلوم أن فوكو قد تفطن الى أهمية السياسة الحيوية سنة 1982 وجعلها وسيطا وجسر عبور من السياسة الى الاتيقا ورأى أن راهنيتها تكمن في الحقبة المعاصرة في مساهمتها في اعادة صياغة السياسة على ضوء الاتيقا وإعادة فهم السلطة بالأخذ بعين الاعتبار قيمة الحياة ومعناها.
من هذا المنطلق تتمثل المهمة السياسية البارزة بالنسبة للوجود الاجتماعي في تحليل ومساءلة استراتيجيات ممارسة السلطة وبلورة وضمان توازن مرن بين علاقات القوة ونسق الحريات. عندئذ رسم فكور من خلال مفهوم السياسة الحيوية صور تحول ممارسة السلطة وسعيها نحو حكم لا فقط الأفراد individus من خلال عدد معين من الاجراءات التأديبية والانضباطية وإنما مجموعة الأحياءVivants الذين يكونون سكانا Population أو شعباpeuple .[2]
هكذا تعتني السياسة الحيوية بالسكان من جهة صحتهم ووقايتهم من الأمراض المعدية والخطيرة وتلقيحهم وتحرص على تغذيتهم وتصون أجسادهم وتنظم رغباتهم وتعقلن طرق تصرفهم في أجسادهم. كما تراهن على توفير الحياة الجيدة والحرة لغالبية السكان دون استثناء أقلية أو فرد. لكن التحليل التاريخي يكشف أن السياسة الحيوية ترتبط بالعقلانية السياسية وبميلاد الليبرالية والتي تعني ممارسة الحكم عن طريق السلطات المحلية وتوفير مقومات الحياة للجميع وذلك بضمان الحد الأكبر من المنافع مع ارتكاب الحد الأقصى من المضار كما في النموذج الاقتصادي بل تخفيض المساوئ وتجنب أكثر ما يمكن المضار وقبول الحد الأنسب من المنافع والخيرات.
ربما من أهم الركائز التي تستند عليها السياسة الحيوية هي اعتماد تكنولوجيا جيدة للسلطة تقوم بتوفير جملة من الاجراءات والآليات للمحافظة على النظامmaintien de l’ordre وإتباع تخطيط علمي ومختص يعمل على تنمية وتطوير الدولة وتعتني بالسكان Population أو الشعب وذلك بحسن التصرف في قوة العمل ومراقبة مصادر الحياة ومدخرات الغذاء والماء.
بناء على ذلك يرتبط التوجه الليبرالي عند فوكو بالعقلانية السياسية والواقعية ويحرص على الرجوع الى عقل دولة بتفعيل نمط جديد الحوكمةgouvernementalité وتطوير السلطة عبر تحقيق تنمية الاقتصاد والارتقاء بالمجتمع وتثقيف الأفراد وتطهير الأعراق وازدهار الدولة.
لقد مثل مفهوم الحوكمة gouvernementalité نقطة اللاّعودة مع فن الحكم بالاعتماد على المبادئ المستخلصة من الفضائل الأخلاقية التقليدية مثل احترام المقدس والحكمة والعدالة وجعل من الحذر والتفكير والتعقل معيار قيس للقرارات السياسية والتدابير المتخذة للتدخل في الشأن العام ووظف العقلانية السياسية في خدمة الدولة الوظيفية وحقل تطبيق بالنسبة للمبادئ المتبعة.
لقد عنى فوكو بالحوكمة في مرحلة أولى مجموعة من المؤسسات والإجراءات والتحاليل والحسابات والتكتيكات التي تسمح بممارسة نوع محدد ومعقد من السلطة من أجل الارتقاء بالسكان نحو النماء والازدهار والسلامة وذلك باستعمال وسائل كفيلة بضمان الحماية والأمن. أما المعنى الثاني للحوكمة، فإنه يشير الى هيمنة مؤسسة الحكومة على السلطات التشريعية والقضائية وما تبقى من السلطة التنفيذية وتفردها بوسائل السيادة والمنعة بالنسبة الى الدولة. في حين أن المعنى الثالث للحوكمة يشير الى عقل الدولة. ويتكون حسب فوكو من التقاء بعدين هما السكان والثروة وبعبارة أخرى مجموعة المعارف والخبرات والتقنيات السياسية والحربية من جهة والمنافع المادية والأموال الناتجة عن التجارة والفلاحة والصناعة والخدمات[3].
على هذا النحو لا ينطلق التفكير الليبرالي من وجود الدولة ولا يهدر الوقت في البحث في أسسها ولا يستعمل الحكومة من أجل تحقيق هذه الغاية بل يعود الى المجتمع وينطلق من المجتمع وما يوجد عليه من وضع الصلة المعقدة بين التخارج والتداخل من منظور الدولة وكذلك من الأحياء والسكان في مستوى وجودهم اليومي وأحوالهم ومطالبهم ومشاكلهم والطابع العلائقي بينهم. لعل المنهج الذي تعمتده السياسة الحيوية هو بعيد كل البعد عن التحليل القانوني والتحليل الاقتصادي وقريب من الحوكمة الرشيدة وذلك بالتعامل مع السكان بوصفهم مجموعة الكائنات الحية والأفراد المتعايشة تظهر جملة من الأبعاد البيولوجية والمرضية pathologique المميزة. في الواقع، لقد حققت السياسة الحيوية ثورة في مجال تدبير الفعل السياسي حينما نقدت الماركسية مبقية على العدالة والمساواة والمنفعة العامة ولما خلخلت الليبرالية الكلاسيكية منتصرة الى الفرد والحرية والكرامة والشخص وعندما تجاوزت التراث والتقليديات وتخطت ثنائية مجتمع/ دولة بتشييد اقتصاد سياسي للحياة بصفة عامة économie politique de la vie en général ، تحول الى طب اجتماعي ضخم يحرص على تحقيق الاستقلالية الذاتية للأجساد ويحمي حياة الأفراد[4].
يترتب عن ذلك احداث ميشيل فوكو تفريقا واضحا بين الدولة والسلطة وبين الأخلاق والإتيقا، وآيته يف ذلك أن نظرية الدولة تعود الى الحقبة الحديثة وتمثل تعبيرا ممكنا عن علاقات القوة في زمن تاريخي معين تخضع الأفراد لقراراتها وقواعد لعبتها. واستنتج فوكو استعمال الدولة لإستراتيجية السلطة من أجل فرض هيمنتها على المجتمع وخاصة في المؤسسة والمتحف والفضاء والسوق. اذا كانت الأخلاق تعني مجموعة من القيم وجملة من قواعد الفعل يتم اقتراحها على الأفراد والمجموعات بواسطة الأجهزة الالزامية مثل العائلة والمدرسة والمعبد فإن الاتيقا هي الطريقة التي يتكون بها المرء كذات أخلاقية ويحدد لنفسه قواعد للسلوك ونمط للوجود في العالم. ولذلك عد فوكو الجوهر الاتيقيsubstance éthique الطريقة التي يشكل بها الفرد المادة الأساسية للقاعدة الأخلاقية للسلوك[5]. لكن ماهو الدور الذي تضطلع به الاتيقا في السياسة الحيوية؟
والحق أن لفظ الاتيقا ظهر في الفلسفة الفرنسية المعاصرة أول مرة بطريقة دالة عام 1977 في مقدمة كتاب "أوديب مضاد: الرأسمالية والفصام" لجيل دولوز وفيليكس غتاري وكان أول كتاب في الاتيقا بالمعنى الفلسفي للكلمة وسبب ذلك طرحه لأول مرة العلاقة التي يعقدها المرء مع ذاته حينما يفعل ويتحول الى ذات راغبة ويتصرف مع غيره ويدبر طريقة عيشه ونمط وجوده.
بناء على ذلك عوضت الإتيقا بماهي أنطولوجيا نقدية للراهنOntologie critique de l’actualité الأخلاق المسيحية ، التي تعتمد بالخصوص على الخضوع للواجب وتقسم العالم الى مدنس ومقدس، وحلت كذلك محل السياسة بماهي استراتجية للسلطة المطلقة على الأفراد، وبالتالي صار بإمكان السياسي أن ينتج الذاتية من خلال التكوين الإتيقي للذوات والبناء الجمالي للوجود، وهذا ما يقصده فوكو بالسياسة بوصفها اتيقاla politique comme une éthique [6] .
غاية المراد أن ليبرالية السياسة الحيوية قد سمحت لميشيل فوكو بالنظر الى السكان ليس بوصفهم مواضيع تحتل إقليما ولا مجموعة ذوات حقوق تشكل المقولة الأساسية للنوع البشري وإنما باعتبارهم يمثلون الجسم الذي يتشكل من حياة الأفراد والذي يبنيه التصرف السياسي الكوكبي.
حقيق بهذا الفيلسوف البارع أن يجعل من السياسة الحيوية طريقة في ضبط الاستراتيجيات التي يجب أن يتوخاها الأفراد عند تدبير ذواتهم وحكم أنفسهم وربط صلات معها وعند الانفتاح على غيرهم والتواصل معهم وليست مجرد التصرف في السكان وتدبير شؤونهم العامة وحفظ حياتهم.
لكن كيف تستفيد الليبرالية من الالتقاء بين تقنيات حكم الذات وتقنيات الهيمنة على الغير والعالم؟
المراجع:
Foucault Michel, naissance de la biopolitique, cours au collège de France, 1978-1979, Paris, Gallimard-Seuil-Ehess,2004.
Foucault Michel, Histoire de la sexualité, le souci de soi, tome 3, Paris , Gallimard, Paris, 1984.
Judith Revel, Dictionnaire Foucault, Ellipses Edition Marketing S.A, 2008.
ميشيل فوكو، "يجب الدفاع عن المجتمع"، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 2003.
[4] Voir Foucault Michel, naissance de la biopolitique, cours au collège de France, 1978-1979, Paris, Gallimard-Seuil-Ehess,2004.
[5] Voir Foucault Michel, Histoire de la sexualité, le souci de soi, tome 3, Paris , Gallimard, Paris, 1984.
0 comments:
إرسال تعليق