إنه الحــبُّ/ فاطمة ناعوت

 مجلة ٧ أيام | ٥ نوفمبر ٢٠١٣

أنا كـ الحبِّ/ والحبُّ عصفورٌ متمرّد/ فلا تحاولْ الإمساكَ به/ العصفورُ الذي تريده يراوغك/ يطير ف الهواء مبتعدًا/ إن لم تهتمْ به يعوُد إليك / تظنُّ أنكَ قد سيطرتَ عليه/ يأتي .. يذهبْ .. ثم .. يعود/ تعتقدُ بأنك أمسكته .. فيطير .. بعيدا/ يُفلت منك .. تتجنبه .. فيعود إليك/ الحبُّ لاقانونَ له/ إن لم تحبني .. أحببتُكْ/ وإذا أحببتك.. خذْ حذرك.”
هكذا شدَتِ الغجريةُ الحرون "كارمن"، في صوت الجميلة "سيمون"، في أوبرا "كارمن" التي كتب نغمَها الموسيقار الفرنسي "جورج بيزيه" في منتصف القرن التاسع عشر، واستلهمها عبقريُّ المسرح المصريّ "محمد صبحي"، في مسرحية ساحرة من عيون المسرح العربي، تحمل الاسم نفسه: كارمن.
وفي هذا الأسبوع، ٤ نوفمبر، نحتفل بعيد الحب المصري، الذي يعلم اللهُ وحده كيف سيمرُّ (أكتبُ المقال يوم ١ نوفمبر)! هل سيمرُّ في سلام بعدما يُلقي على العشّاق شيئًا من بهجاتِه وفرحه، أم ستفسده علينا محاكمة مرسي، ويفسده الإخوان كعادتهم في إفساد كل فرحة يحاول المصريون اقتناصها وسط الدموع والدماء التي يُغرق بها إخوان الشيطان وأزلامُهم أرضَ مصرَ منذ عامين.
لكن كارمن تُعلّمنا درسًا جديدًا في الحب. أنه يهرُبُ إذا طاردناه، ويدنو منّا إن تجاهلناه، مثل عصفور عنيد مشاكس. فهل ينطبق هذا القانون الصعب على جميع الأحبة، أم هو قانونٌ خاصٌّ بالغجريات المتمردات اللواتي لا يخضعن لقوانين الطيبات المستكينات من النساء؟!
في عيد الحب، قررتُ أن أهديكم هذا الأسبوع مقطعًا من كتاب "لماذا نحب؟ طبيعةُ الحبِّ وكيمياؤه"، لعالمة الأنثروبولوجي الأمريكية "هيلين فيشر", الذي سيصدر قريبًا بالعربية، من ترجمتي، عن المركز القومي للترجمة.
"ما الحبُّ؟"، يتساءلُ شكسبير. لم يكن الشاعرُ الكبير أولَ من تساءل. أتصوّر أن أسلافنا تأملوا ذلك السؤال قبل ملايين السنين وهم يتحلّقون حول لهيب النار في خيامهم أو بينما يرقدون على الأرض يرقبون النجوم.
تلك العاطفة التي منحتنا كلَّ هذا الميراث من الأوبرات، والمسرحيات، والروايات، وأكثر القصائد مسًّا للمشاعر والمقطوعات الموسيقية الآسرة، وكذلك أبدع القطع النحتية واللوحات التشكيلية والأساطير، والحكايات الخرافية. إنه الحب الذي جَمَّلَ العالمَ وغمر البشرَ بالبهجة والفرح. لكن الحبَّ حين يُهانُ أو يُستخَفُّ به، بوسعه أن يجلبَ أشدَّ ألوان العذاب النفسيّ والجسديّ ضراوةً. الغضب، القتل، الانتحار. آن الأوان لكي نتأمل بجديّة سؤال شكسبير: "ما الحبُّ؟"
كم من الرجال والنساء أحبّوا في كل الحِقب والعصور؟ كم من أحلامهم تحقق؛ وكم أُهدِر؟ كم قصة حب امتصّها هذا الكوكب. ولحسن الحظ، ترك لنا العشاقُ حول العالم إرثًا هائلا من الأدلة تشير إلى حكاياهم.
من أوروك، في سومر القديمة، تأتي على الألواح الآشورية باللغة المسمارية، قصائدُ تخلّدُ غرام "إنّانا"، الملكة السومرية، بـ "دوموزي"، راعي الغنم، قبل أربعة آلاف سنة.
ولدينا "قيس"، ابن شيخ القبيلة في الجزيرة العربية القديمة. أسطورة القرن 17. تقول الحكايةُ إنه كان الفتى الوسيم الذكيّ- حتى التقى "ليلى"، تلك التي من معانيها: الليلةُ الطويلة حالكةُ السواد، نظرًا لشَعرها الداهم. ثمِلاً، كان قيس في إحدى الليالي، انتفض من مقعده وهام على وجهه في الطرقات يصرخ باسم معشوقته. ومن يومها، اكتسب لقب: "المجنون”. 
كذاك تحكي الخرافةُ الصينية في ق 12 عن الصبيّة المدلّلة "ميلان" ابنة الضابط الكبير في كيفينج، وكيف وقعت في غرام "تشانج بو"، الشاب ذي الأصابع النحيلة والموهبة الخاصة في نحت أحجار اليشم الكريمة. "منذ خُلقَتِ السماءُ والأرض، خُلقْتِ أنتِ لي، وأنا خُلقتُ لكِ، وأبدًا لن أترككِ تمضين." هكذا صرّح تشانج لميلان ذات صباح في حديقة بيتها. عاشقان من طبقتين مختلفتين في مجتمع ذي نظام طبقيّ صارم مثل الصين. ولما غمرهما اليأس، هربا معًا. فكان عقابها أن دُفِنَت حيةً في حديقة أبيها. لكن "ميلان" تظلّ حيّة في قلوب الصينيين.
روميو وجولييت، باريس وهيلين، أورفيوس ويوريديس، آبيلارد وإليوز، ترويلاش وكريسيدا، تريستان وإيسلوت، شربل بعيني، وليلى: آلاف قصائد العشق، والأغنيات، والحكايا عبرتِ القرونَ في أوروبا القديمة مثلما عبرتها في الشرق الأوسط، واليابان، والصين، والهند، وكافة المجتمعات التي تركت لنا مخطوطات مكتوبة.
حتى حينما لا يكون لدى الشعوب وثائقُ مكتوبة، فإن لديهم دلائلَ على وجود ذلك العشق بطريقة أو بأخرى. عند مسح 166 ثقافة متنوعة، وجد الأنثروبولوجيون دلائل على الحب الرومانتيكي في 147 ثقافة منها، أي بنسبة 90%. في ال19 مجتمعًا المتبقية، أخفق العلماء ببساطة في فحص هذا التوجّه لحياة تلك الشعوب. ولكن من سيبريا إلى التخوم البرية النائية في أستراليا إلى الأمازون، تغنّتِ الشعوبُ بأغنيات الحب، وأُلّفت قصائدُ العشق، وحُبكتِ الأساطيرُ والخرافات حول الغرام الرومانسي. ثمة عشاق يصنعون تعاويذ الحب السحرية، ويقدمون التوابل والبهارات التي تؤجج مشاعر الغرام. كثيرون يفرّون مع أحبتهم، وكثيرون يصارعون ألم الفقد. البعض يقتلون عشاقهم. والبعض يقتلون أنفسهم. وكثيرون يغرقون في الكآبة والحَزَن العميق حتى لا يكادوا يأكلون أو ينامون.
ما تلك الكيمياء؟ ما ذلك الشعور الذي يخطف العقل، فيجلب السعادة القصوى في لحظة، وفي اللحظة التالية يجلب اليأسَ والحَزَن؟ إنه الحب. 

CONVERSATION

0 comments: