لازلت أذكر جيداً ، وبوضوح .. كيف كانت تضعنى أمامها على منضدة السفرة ، وتظل لساعات طوال تقرأ لى دون كلل ، وتقص على حكايات من وحى خيالها ..
كانت أمى تفعل ذلك حين كنت فى الثانية من عمرى !! .. وقبل ان أتم عامى الثالث أصبحت أقرأ القصص التى كانت تقرأها لى .. وبأجادة !
ولا انسى ابدا حكاياتها الرائعة المتجددة كل ليلة .. حين كانت ترددها على مسامعى بينما استعد للنوم .. ولم تقصر ابدا فى هذه العادة .. مهما كان انشغالها ..
هذا ما أذكره .. اما ماعرفته حين كبرت .. ان امى كانت تحدثنى وتقرأ لى منذ اليوم لمولدى !! .. وحتى منذ ان كنت جنيناً لم يخرج للحياة بعد ..
ربما كان ما فعلته امى منذ اكثر من عقدين من الزمان .. يبدو درباً من الجنون حينها .. لكن الان .. اصبح جلياً .. ان هذا هو السبب الذى جعلنى اصبح قادرة على كتابة هذه السطور .. وكتابة الحكايات للأطفال .. وان اصبح واحدة من اصغر من احترفوا هذه الكتابة سناً ..
هذه الشكر الذى أحمله لأمى الان على قراءتها .. هو نفسه الذى يجب ان يحمله لكم اطفالكم حين يكبروا .. ليس ضروريا ان يصبحوا جميعا مؤلفين او كتاباً للأطفال .. لكن كونوا على تمام الثقة واليقين .. ان حكاياتكم التى تقصونها على مسامعهم فى مهدهم .. لن تضيع سدى ابداً .. ولن تصبح فى طى النسيان حين يكبرون ، وسوف يأتى اليوم الذى يقدمون لكم فيه الشكر على قراءتكم لهم .. وعلى تعليمهم القراءة .
هذا هو موضوعنا اليوم .. أن نحكى لأطفالنا ..
بالطبع هذا امر لا اختلاف على حتميته واهميته البالغة .. وقد سبق وان تحدثنا فى هذا سلفاً فى مقالات سابقة . لكن البعض قد يتساءل .. منذ متى نبدأ ؟ .. فى اى سن نبدأ الحكايات ؟
الرد على هذا السؤال يتخلص فيما افتتحنا به.. نعم .. منذ ان يكون الطفل جنيناً ! فالدراسات العلمية الحديثة فى العقدين الآخيرين .. تثبت ان الجنين يستجيب للمؤثرات المحيطة به .. ويسمع جيدا للأصوات من حوله ، والكثير من المختصين الآن اصبحوا يشجعون على عادة القراءة للاجنة .. وبخاصة ان معظم الأمهات تقوم بهذا الفعل بشكل تلقائى حين تحادث جنينها .
والقراءة للجنين قد تسهم فى نشوء القراءة كعادة نفسية لديه .. وارتباطه بصوت الأم وهى تقرأ وتحادثه .. يجعل أواصر الصلة بينهما عميقة ورائعة .
السؤال التالى الذى يجب ان نجيب عليه هنا .. ماذا نحكى لهم ؟ .. ومن اين نأتى بالحكايات ؟؟
ان الاباء والامهات ليسوا جميعهم مبدعين ، أوقادرين على ان يصبحوا مؤلفين وكتاباً للأطفال .. لذا فان لم تجدوا لديكم موهبة التخيل والأبداع .. لا تقولوا ابدا : لانجد ما نحكيه لهم .. عليكم ان تبحثوا عن يبنوع من الينابيع التى لا تنضب لحكايات الأطفال كى تغترفوا منه ليرتوى منه ظمأ أطفالكم للحكايات والمعرفة .
ان لدينا الآف الكنوز .. عليكم فقط ان تحسنوا الانتقاء .. اقرءوا الكثير .. ورشحوا .. واختاروا بعناية .. ما يكون اكثر متعة وجاذبية ، وأعظم فائدة .
ونحن العرب مبدعو اروع الملاحم القصصية على مدار التاريخ ، واصحاب الكنز الذى لا يفنى من الحكايات .. يكفينا فى تراثنا اعظم راوية فى التاريخ : شهر زاد .. التى سحرت قلوب العالم بحكايات ألف ليلة وليلة .
إن كل هذا الثراء والغنى فى التراث القصصى والحكايات لدينا .. لابد ان يجعلنا نعود الى ممارسة هذا الفن العربى الخالص : الرواية .. لأطفالنا .. هذا الفن الذى أخذه الغرب منا واقبلوا عليه اقبالا منقطع النظير .. فلم يعد بينهم اب ولا ام يبيت ليلا دون ان يروى الحكايات لأطفاله .
ومن بين هؤلاء .. ظهر اعظم كتاب للأطفال فى العالم .. واروع قصص فى التاريخ .. حين سجلوا ماحكوه وكتبوه ونشروه .. كانوا مجرد آباء وأمهات محبين ومهتمين بأطفالهم .. لم يكونوا من محترفى الكتابة للأطفال .. ولا مؤلفين متمكنين ..
لكنهم كانوا مبدعين ، وأطلقوا لخيالاتهم العنان .. أصطادوا الأفكار من الهواء .. وابتكروا شخصياتهم الخاصة .. واصبغوا عليها ما رغبوا ..
ولحسن حظهم وحظنا .. كانت أفكارهم عبقرية .. وصارت الأفكار حكايات رائعة ، وأصبحت حواديتهم البسيطة .. أشهر قصص للأطفال فى العالم !!
عشرات المؤلفين المشهورين للأطفال فى العالم كانت هذه بدايتهم ..
فلم يكن ” لويس كارول ” كاتباً للأطفال .. حين كتب رائعته : ” أليس فى بلاد العجائب ” .. أشهر رواية للأطفال فى العالم .. كان ” لويس ” أستاذا للرياضيات .. خرج ذات يوم فى رحلة طويلة فى نهر التيمز .. مع عميد كلية الهندسة التى يعمل فيها وبناته الثلاث..
وبينما كان يجلس د . لويس مع بنات أستاذه .. طلبت منه الوسطى ” أليس ” .. أن يحكى لها قصة بنت تحمل أسمها .. وبدأ لويس يحكى عن البنت الصغيرة ” أليس ” التى كانت فى العاشرة من عمرها و سقطت فى جحر ارنب ومنه انطلقت الى عالم خيالى مدهش , وذهبت الى بلاد العجائب التى لا يعرف احدا عنها !
وقد كان .. ونشرت القصة بعد ذلك .. لتصبح ” أليس فى بلاد العجائب ” .. القصة التى نعشقها جميعاً .. وواحدة من أهم كلاسيكيات أدب الأطفال فى العالم !
أما ” القطار توماس ” الشهير الذى تعلق به أطفال العالم منذ خمسن عاماً وحتى الآن.. فلم تختلف حكايته كثيرا عن حكاية ” أليس ” ..
هذه الحدوتة الرائعة .. كانت مجرد حدوتة لقطار من نسج خيال أب هو القس ” توماس ويلبرت ” وقد بدأ ينسج أول خيوط حكايته الممتعة .. عندما اصيب ابنه الصغير ” كريستوفر ” بالحمى القرمزية .. وكان لابد من عزله عن باقى افراد اسرته حتى لا تصيبهم العدوى ، وضاق كريستوفر بهذه العزلة .. اما الاب الحنون ” توماس ” فقد فكر طويلا فى طريقة يسرى بها عن ابنه الصغير ..
واخيرا .. هداه خياله الى ” القطار توماس ” الذى يسير بالبخار ويقوم بالعديد من المغامرات الشيقة .
واحب ” كريستوفر ” كثيرا حكايات والده عن القطار توماس .. حتى انه رغب فى المزيد منها .. وكان يلح على والده باستمرار .. ليحكى له حكايات جديدة بطلها ” توماس القطار ” .. واستسلم الاب لرغبة ابنه .. واطلق لخياله العنان ليؤلف المغامرات الساحرة .. وفى عام 1945 .. نشر الاب اول قصة من قصص ” القطار توماس ” .. وتوالت بعد ذلك القصص التى كتبها القس توماس .. حتى قرر ان يتوقف عن الكتابة اخيراً بعد ان كتب 26 قصة بطلها ” القطار توماس ” .
لكن الأبن الصغير ” كريستوفر ” الذى كبر وقلبه متعلق بحكايات والده ومغامراته الساحرة للقطار توماس .. ابى ان تتوقف هذه الحكايات التى اسرت كل من قراها او سمعها .. فقرر ان يسير على نهج والده ويستمر فى كتابة المزيد من الحكايات والمغامرات للقطار المحبوب ” توماس ” ..
لسنا كلنا ” لويس كارول ” أو ” توماس ويلبرت ” .. لكن لا أقل من أن نبذل قليلا من الجهد فى الأبداع من أجل أطفالنا .. ولا عذر لمن يعجز عن هذا .. فأمامنا مئات .. وألوف من الحكايات الرائعة التى تصلح لهم ، ولدينا الملايين من الأفكار التى تناسبهم وتقدم لهم المتعة والمعرفة ..
وإذا أردتم ان تعرفوا كم هو مذهل فعل الحكايات فى اطفالكم .. جربوا ان تطلبوا منهم ان يعيدوا عليكم مارويتوه لهم .. ستذهلون بكم الأبداع والخيال فيما سيقولون !
سزف يحكون لكم شيئاً جديداً ، ومختلفاً تماماً .. سيطلقون جواد خيالهم ليسابق الريح .. سيضيفون ، ويحذفون ، ويؤلفون ، ويبتكرون شخصيات جديدة .. وسوف يطرح ذهنهم الخصب.. آلاف الأفكار الرائعة المدهشة .
والآن .. لم يعد امامنا الان سوى ان نتعلم ” فن الاختيار ” من اجلهم .. وهذا نا سوف نتعرض له فى المقالات القادمه .. لنعرف – بالتفصيل – كيف يمكننا ان ننتقى الافكار التى تناسب اطفالنا فى كل مرحلة عمرية .
واخيراً .. تذكروا قول الأمام ” على بن ابى طالب ” رضى الله عنه :
” الطفل صفحة بيضاء فكلما نقشتوا فيها لون تلونت بذلك اللون ”
فأنتقوا بعناية .. الألوان التى تنقشون بها عقول صغاركم ..
0 comments:
إرسال تعليق