مع البروفسور محمد عبد اللطيف مطلب/ د. عدنان الظاهر


قبل ثورة تموز 1958
لم أكن أعرفه في مدينتنا الحلة سوى أنه كان سجيناً سياسياً محكوماً لفترة سجن طويلة . هذا ما كان معروفاً وشائعاً عنه زمان الحكم الملكي . لكني كنتُ أعرف أخاه ( عزيز ) زميلي في ثانوية الحلة للبنين خلال الأعوام الدراسية 1951 ـ 1954 . ثم كان والد الفقيد الصديق الحاج ( مِراراً ) عبد اللطيف مطلب شخصية محترمة معروفة في مدينة الحلة في أوساط تجّار الحبوب وغيرهم من التجّار كما كان معروفاً في أوساط الطلبة ولا سيّما الطلبة التقدميين والدمقراطيين واليساريين . كان تعاطف واحترام فئات الطلبة هذه له مُبرراً وله قاعدة وجذور . منها أنه كان شخصية وطنية نظيفة ووالداً لسجين سياسي ثم كان سخيّاً كريماً محبّاً للخير ومتبرعاً دائماً لأي نشاط إنساني . كان هذا الرجل يستغل مناسبات الحج والعمرة لإستحصال جواز سفر يحج فيه ويعتمر لكنه بعد كل حج وإعتمار يدلف سرّاً لحضور فعاليات ومؤتمرات السلام والدعوات لنزع السلاح وتحريم الأسلحة الذريّة . كانت لذا علاقته وثقى بالشيخ عبد الكريم الماشطة فهو الآخر كان ينهج هذا النهج ذاته وبالتنسيق السري المحكم بينهما .
بعد ثورة تموز 1958 
بعد أنْ أمضى الفقيد الراحل الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب قرابة عشرة أعوام في السجن أمضى أكثرها في سجن نكرة السلمان الصحراوي المعروف ... وبعد ثورة تموز 1958 أعيد لوظيفته السابقة مُعيداً في كلية الهندسة لكنه سرعان ما حصل على بعثة دراسية إلى جمهورية ألمانيا الدمقراطية لدراسة الدكتوراه . هل كانت تلك زمالة حزبية أو إنها كانت إحدى بعثات وزارة التربية يومذاك ؟ لا أدري . غادر العراق خريف عام  1959  على ما أحسب متوجهاً إلى مدينة وجامعة دريسدن في ألمانيا الدمقراطية حيث درس وأكمل دراسته متخصصاً في علوم الفيزياء الذرية وكانت دراسته دراسة نظرية . ثم واصل بحثه النظري وحاز على أعلى درجة علمية حسب الأعراف الجامعية في العالم وهي درجة دكتوراه هابيل التي تقابل شهادة دكتوراه علوم
D.Sc.
وهذه الدكتوراه أعلى من شهادة دكتوراه فلسفة الكثيرة الشيوع
Ph.D.
1972 ـ 1978
توثّقت علاقتي به خاصة في وبعد عام 1972 حيث كان هو أستاذاً في قسم الفيزياء من كلية علوم جامعة بغداد وكنت يومذاك مُدرّساً في قسم الكيمياء في نفس الكلية . ما كنّا من جيل واحد إذْ أنه أكبر مني بعشرة أعوام في أقل تقدير . أصبحنا في هذه المرحلة قريبين جداً من بعضنا وشدّتنا روابط قوية حميمة حلاّوية ـ علمية ـ سياسية . كان معي في غاية السخاء في تقديم التبرعات الشهرية الضخمة للحزب الشيوعي فقد كان راتبه الشهري ضعف راتبي وربما أكثر . وكان عازباً يسكن لوحده في مشتمل قريب من كلية العلوم في الأعظمية مقابل ساحة عنتر ... وكنتُ أسكن وعائلتي بيتاً في شارع المغرب بجوار مستشفى وليد الخيّال وصيدلية السيد عامر . ما كنا تفترق إما أكون معه في مكتبه في قسم الفيزياء حيث الشاي العادي أو الشاي الحامض أحياناً حسب مزاجه ... وقد اكتشفتُ أنه يقدّم الشاي الحامض للنخبة العزيزة فقط ! وعلى رأس هذه النُخبة العزيزة طالباته ! أما أولاد الخايبة الآخرون من أمثالي فنصيبهم الشاي العادي . نعم ... إما أكون معه في مكتبه أو أنْ يكون معي في مكتبي في قسم الكيمياء . وأحيانا نتناول غداءً بسيطاً في نادي الطلاب حيث كنا نرتاح أنْ نكون بين طلبتنا وأولادنا نقاسمهم المقسوم وكانوا أحيانا يلتحقون بنا ويأمرون بجلب المزيد من الشاي أو باقي المشروبات الغازية . أغلب نقاشاتنا كانت تدور ـ بعد أنْ نتعب من قضايا النواة والذرّة ـ حول أمور سياسية ملتهبة وكنا يومذاك في زمان الجبهة الوطنية أو الجبحة الوطنية كما كان يصفها الفقيد الشهيد الدكتور صباح الدُرّة ! صدر له في تلك الفترة كتيب صغير عن دار حكومية لعلها دار الجماهيرية أو غيرها مقابل مكافأة رمزية مقدارها خمسون ديناراً . بعد قراءتي المتأنيّة لهذا الكتيب وجدتُ فيه معالجة جديدة جريئة ونقداً جارحاً مُبطّنا لبعض مقولات الفلسفة الماركسية وبيّن بذكاء ما فيها من خطل وأخطاء . كنتُ شديداً معه في نقاشاتي تلك وفي إعتراضاتي فكان يلين حيناً ويشتدّ ويُصر على مواقفه ووجهات نظره في أحيان أخرى ، لكنه حين يجدني عنيداً ومناقشاً صلباً بالحق يفهم ما يقول وقد سبر أغوار ذلك الكتيب ... حينذاك ينسحب بلطف وهدوء ولكن بدون إعتراف ولا إعتذار متخذاً موقف التقية المعروف ومردداً [[ والله ... ما أدري ... هذا هو إجتهادي ... لا علاقة له بدراستي في جمهورية ألمانيا الدمقراطية ولا بأساتذة جامعاتها ]]. كان السائد يومذاك أنَّ وضع المثقفين وأساتذة الجامعات في ألمانيا الدمقراطية أفضل من نظيره في الإتحاد السوفياتي... لذا ما كان مستغرباً أنْ نسمع عن نقد للماركسية اللينينية وللطريق السوفياتي في بناء الإشتراكية فالشيوعية خارج حدود الإتحاد السوفياتي .
كان واضحاً للجميع أنَ الصديق والزميل الجامعي الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب هو رجل عازب لا زوجة ولا أولاد ولكن خاب ظن الجميع ... ففي إحدى رسائله لي ـ بعد مجيئ وعائلتي إلى المانيا ـ أخبرني أنه لم يعد ذاك الرجل الأعزب أبو جاسم إنما هو اليوم أبو فارس. فهمت فيما بعد أن له زوجة ألمانية أنجبت له ولداً اسمه فارس.
كنتُ أيام زمالتنا في كلية العلوم أتندر معه وأسأله متى تتزوج أبا جاسم ؟ كان جوابه واحداً لا يتغيّر مثل طابع البريد : الله وإيدك ! أي جدْ لي العروس المناسبة .
لم يتحملنا نظام البعث ـ ونخبة أخرى من أساتذة الجامعات العراقية .. 76 أستاذاَ في القائمة الأولى وكلانا كان فيها ـ فصدر أمر في ربيع عام 1978 من مجلس قيادة الثورة / مكتب أمانة السر بنقل بعضنا إلى دوائر أخرى لا علاقة لها بالبحث والتدريس .... وأحيل بعضنا على التقاعد ثم صدرت قوائم وقوائم لا حصرَ لها  بعد هذه القائمة . كان الراحل من بين المحالين على التقاعد ! غادر كلانا العراق في صيف عام 1978 هو إلى ألمانيا الدمقراطية وأنا إلى بلجيكا وهولندا وباريس وسويسرا ثم فرنسا وأخيراً أخذت وعائلتي طريق البحر متجهين إلى العاصمة الليبية طرابلس . 
لم يستطع ممارسة تدريس إختصاصه الدقيق في جامعات ألمانيا الدمقراطية فمارس تدريس الفلسفة الإسلامية في أحد المعاهد المسائية المخصصة لكبار السن ... حسبما كتب لي في إحدى رسائله .
في رسائل أخرى متبادلة بيننا منتصف ثمانينيات القرن الماضي كتب لي واصفاً ما حلَّ بقصرهم المشيّد قريباً من نهر الفرات في الحلة إثر فشل إنتفاضة شعبان 1991 .. وكان بيتهم مقراً لقيادة الإنتفاضة في مدينة الحلة إذ قصفه البعثيون بالمدافع والصواريخ وأحاله إلى ركام ! قال الفقيد إنه غير آسفٍ على ما حلَّ بدارهم في الحلة لكنه حزين وآسف على ما حل بمكتبته العامرة بشتى أنواع الكتب والمصادر إذْ أُحرقت فاستحالت رماداً وركاماً . 
توفي الفقيد وضاعت مني أخباره سوى شَذَرات لا تُغني ولا تنفع !
مُلحق /
أُثبّت هنا نص رسالة من الفقيد إبن الحلّة البار وجهها لي في 7.10.1994 من مدينته الألمانية درسدن وأنا مقيم كنتُ ولم أزل في مدينة ميونيخ الألمانية . ثم سألحق بها صورة من هذه الرسالة بخط يده لنشر الجميع في المواقع لأهمية ومكانة الراحل الوطنية والعلمية والسياسية فلقد كان ضحية البعثيين شأن الكثيرين من مثقفي وعلماء ومناضلي العراق من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين .
نص رسالته لي :
(( د. محمد عبد اللطيف مطلب
7/ 10 / 94 
أخي عدنان
تحياتي القلبية إليك من منطقة من أجمل مناطق ألمانيا، حيث يَعقدُ الطلبةُ مؤتمرهم السنوي وليتك كنتَ هنا لنجدد الذكريات والأحاديث الممتعة والمفيدة .
 ما هو عملك الآن ؟ هل تواصل مسيرتك العلمية ؟ أما أنا فمشغول في الغالب في محاضرات حول التراث العربي ـ الإسلامي في العلم والفلسفة ألقيها في
Volkshochschule
أتمنى لك ولعائلتك الصحة والرفاه والسلام
توقيعه .
كتب على ظهر مظروف رسالته عنوانه البيتي كما يلي :
Dr. Mohamed Matlab
Hochschulstraße 28
01069 Dresden 

CONVERSATION

0 comments: