اروع قصائد الغزل عشقاً - الحلقة الثانية -
3 - النسيب :
نسب : النسب : نسب القرابات ، وهو واحد الأنساب . ابن سيده : النسبة والنسبة والنسب : القرابة ، وقيل : هو في الآباء خاصة ، وقيل : النسبة مصدر الانتساب ، والنسبة : الاسم . التهذيب النسب يكون بالآباء ، ويكون إلى البلاد ، ويكون في الصناعة ، وقد اضطر الشاعر فأسكن السين: أنشد ابن الأعرابي :
يا عمرو ، يا ابن الأكرمين نسبا *** قد نحب المجد عليك نحبا
وجمع النسب أنساب . وانتسب واستنسب : ذكر نسبه . أبو زيد : يقال للرجل إذا سئل عن نسبه : استنسب لنا أي انتسب لنا حتى نعرفك . ونسبه ينسبه وينسبه نسبا : عزاه . ونسبه : سأله أن ينتسب . ونسبت فلانا إلى أبيه أنسبه وأنسبه نسبا إذا رفعت في نسبه إلى جده الأكبر. ( 12 )
ويقول قدامة بن جعفر في ( نقد شعره) : إن كثيراً من الناس يحتاج إلى أن يعلم أولاً ما النسيب، ونحنن نحده فنقول: إن النسيب ذكر الشاعر خلق النساء وأخلاقهن، وتصرف أحوال الهوى به معهن.
وقد يذهب على قوم أيضاً موضع الفرق ما بين النسيب والغزل، والفرق بينهما أن الغزل هو المعنى الذي إذا اعتقده الإنسان في الصبوة إلى النساء نسب بهن من أجله، فكأن النسيب ذكر الغزل، والغزل المعنى نفسه
فيجب أن يكون النسيب الذي يتم به الغرض هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقة، أكثر مما يكون فيه من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلة، أكثر مما يكون فيه من الإباء والعز، وأن يكون جماع الأمر ما ضاد التحفظ والعزيمة، ووافق الانحلال والرخاوة، فإذا كان النسيب كذلك فهو المصاب به الغرض (13).
وقد يدخل في النسيب التشوق والتذكر لمعاهد الأحبة بالرياح اللافحة أو النافحة ، والبروق اللامعة ، والرعود الصاعقة ، والطيور السانحة أو البارحة ، والخيالات الطائفة والخاطفة ، وآثار الديار العافية، وأشخاص الأطلال الداثرة .
أعتقد وضحت مراراً في الحلقة السابقة التمييز بين الغزل و التشبيب و النسيب ، ، فالغزل اللبيب يتم في مراودة ، ومحاورة الحبيب ، وهو قريب ، والتشبيب يعني تذكر أيام الصبا والشباب ، أو التشبب لإشعال جذوة القصيد حتى يسكب الشاعر خوالج ما يعتلج في نفسه من مديح وهجاء ، أو فخر ورثاء ، أما النسيب ، فهو ترقيق الشعر لوصف حالة الغزل بغياب الحبيب من مفاتن ورقة وجمال ، و لوعة وحسرة وآمال ، وذكرى الأطلال والديار، كلّ ذلك في إباء ، وعزٍّ وكبرياء ، يكفينا هذا ، وهذا ابن الرومي اللجوج المحتار في وحيدته ، وما يختار !!
ابن الرومي لا تغلبني !! هذا تشبيبك لا غزلك ولا نسيبك ، ولا حتى وصفك !!
ابن الرومي وما أدراك مَن ابن الرومي ؟!! ، له فصيدة في وحيد المغنية ، وهي من روائع الشعر العربي،يقولون عنها : قصيدة غزلٍ بوحيد أو وصف لحركاتها وما تذيب وتجيد!! ، وما هي عندي بغزل بين عاشق ومعشوق ، ولا حتى بنسيب بين ناسب ومنسوب ، ولا بوصف لجماد جلمود ، أو لطير غريد ... معبود ...معبود ، أو لطبيعة خلابة تتجاذب السحر الحلال بين الشاهد والمشهود ،وبشكل أوضح للفكر ، وأجلى للذهن ، أقول ربما يتحسس عبقرينا ابن الرومي الجمال الفني الطبيعي بسمعه ونظره ولمسه وشمّه ، بل حتى بذوقه ، وزد وجدان نفسه في رسم وتصوير لوحاته المدهشة الناطقة للرياض :
تلاعبها أيد الرياح إذا جـــرت *** تســـمو وتحنو تارة فتنكس
إذا ما أعارتها الصبا حركاتها ** أفادت بها أنس الحياة فتونسُ
بل سبق الشعراء العرب الأولين والآخرين ، والمبدعين العالميين أجمعين بهذا الربط بين الأنثى والطبيعة في تبرجهما :
تبرجت بعد حياء وخفرً *** تبرج الأنثى تصدت للذكر
أبهرتني قطعاً وبتصفيق ، كما أبهرت من قبل العقاد والمازني ، ومن على دربهم سائرون ! ولكن هل تريد مني - يا ابن الرومي الشاطر !! - أن أضع وصفك الفني العبقري الخالد للرياض إلى جنب هيجانك ، وشبقك ، وتشببك الفريد للوحيد ؟ كلا يا حبيبي !! - أنا ابن الكريّة ، وكل واحد يعرف أخيّة !! -وما أعنيه أنّ الإنسان أعرف بخفايا الإنسان ، والغريزة الجنسية ، أقوى جاذبية في الدنيا ، بشرط أنّ الغذاء والماء متوفران ، لذلك حدّت من شدّنها وانفلاتها الأعراف الاجتماعية ، والقوانين الوضعية ، وشرائع الأديان ، لتنظيم الإنجاب ، والتوازن الطبيعي للولدان ، فبأي آلآء ربكما تكذبان !!
نعم أقرّ وأعترف ، القصيدة ليست غزلاً بمعنى المراودة ،والتحرش، واللهو مع الحبيب وجهاً لوجه ،والمقابلة بالمثل منها، إيجاباً أو سلباً ، والحق - والحقيقة مرّة - من يكن هذا ابن الرومي بالنسبة لها في ذلك العصر حتى يطمح في مغازلتها ؟ وكان هذا الرجل في زمنه فقيراً ، موسوساً ، متطيراً ، غير مشهور بشعره ، ولا يعتد به ، ولا بشعره في حياته ،رجل سليط اللسان بلا أي سلطة ، هجا معاصره البحتري الشهير نديم المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان ، والخلفاء والوزراء من بعده ، وكان ابن الرومي أصغر عمراً من البحتري خمسة عشر عاماً ( ابن الرومي مواليد 221 هـ ، والبحتري 206هـ) ، فما كان من هذا الأخير حين سمع بالهجاء ، إلاّ أن يرسل تختاً من المواد الغذائية والملابس ،ومعها كيس دراهم ، وورقة صغيرة ، تتضمن بيتين من الشعر :
شاعرٌ لا أهابه ***نبحتني كلابهُ
إنّ مَن لا أعزّهُ *** لعزيزٌ جوابه ُ
البحتري بهذين البيتين ، يريد أن يقول لابن الرومي : اسمع يا هذا بعثت لك التخت ليس رهبة منك ، بل شفقة عليك !!!ويروى أن ابن الرومي طلب من أحد أصدقائه - لعله إسماعيل بن نوبخت - ثوباً ، فوعده به ، ولكنه أبطأ في إنجاز وعده فقال يعاتبه :
جعلت فداك لم أسألــ ***ــــك ذاك الثوب للكفــــــن
سألتكــه لألبســـــــه *** وروحي بــعد فــي البـدن
هل يعقل هذا الرجل البائس المسكين،المتطير الحزين ، والمستجدي العنين - استهزأوا به هكذا ، وما هو إلا شديد الشبق ، كشاعر شاعر مرهف الحس والجنس ، ورد عليهم بأبيات تخدش الحياء !! - - أن يغازل وحيدة ،وهذه الصبية الوحيدة كانت آية في الجمال والخفة ، والرشاقة والأناقة ... كما يقدمها لنا في قصيدته التي خلدتها أبدا ، وقد نظم القصيدة من بعد ، متشبباً بها فنياً ، وليس جسدياً !! ، يذكر المازني في بحثه عن ابن الرومي بعد نقله عدة أبيات من القصيدة الوحيدية ، مشيراً إلى البيت التالي :
مَنْظَرٌ، مَسْمَعٌ، مَعانٍ ، من اللهـــــــ ******** ــوعتـــــادٌ لما يُحَبّ عتيد
ويردف بقوله .. وهذا البيت يفطن إلى ما فطن إليه شِلّرالشاعر الألماني ، وتابعه عليه سبنسر الأنجليزي من العلاقة بين الإحساس الفني بالجمال ، وبين اللهو الذي هو نتيجة الفائض من النشاط العضوي (14)
ولعلكم تتذكرون أنني ذكرت في بحثي عن دعبل الخزاعي ، وعن الانتصار للمرأة العربية أن فرويد قد أشار في كتابه المختصر للأسس النفسية ، من الممكن أن تتحول الطاقة الجنسية الفائضة إلى عمل إبداعي فني أو شعري ، والحق أن العباقرة والشعراء العظام ، والفنانين الكبار يختزنون طاقة فائضة هائلة يستطيعون من خلالها تقديم أروع الإبداعات الإنسانية ، ومن هنا جاء تقديمي لقصيدة شيخنا الرومي على أنها تشبيب وليست بغزل ولا نسيب !!
نعم وليست بنسيب ، لأن الوحيدة ليست لها علاقة نسبية من قبل به ، فلا يذكر حنينه الماضي معها ، ولا أيام وجده المتصابي ، وتعلقه بها ، ولا يقبل ذا الجدار وذا الجدارا ، هياماً بأطلالها وإطلالتها ، بل هي وصف جمالي دقيق للخفة والطرب والمقلتين والجيد ، دون القدرة على التحديد ، فهي لين وشديد !! إغراء يتلوى به شاعرنا للاعبة ساحرة ، فيتشبب بها خيالاً ، وهذا هو المقسوم !! إليك ابن الرومي ، وهو يهزّك من (خفيفه) المبهر ، وأراه يهذي بأذني يا وحيد (ما لي شغل بالسوك مرّيت أشوفك ) : !!
عجبا لي ، إن الغريب مقيم ** بين جنبـي ، والنسيب شريـــــد
قد مللنا من ستر شيء مليــح ***نشتهيه ، فهل له تجريــــــد
هو في القلب وهو أبعد من نجـ* ـم الثريا،فهو القريب البعيـــــد
ولك أن ترضى ، ولك أن تأبى ، أنا عندي - إذن - قصيدة ابن الرومي ( ت 283 هـ ) في المغنية وحيد جارية المرحوم عمهمة ضرب من التشبيب بها ، وكان الله في عونه ، فلا هو قادر باللهو معها ، ومحادثتها ، فيتبادلان الغزل المغزول، ولا هي بصاحبة نسب فيطلّ النسيب بين ناسب ومنسوب ، ولا هي بوصف فني جمالي لهزٍّ وجيدٍ وخصرٍ دون تشببٍّ و تشبيبٍ لمغلوب ، ولو أن العرب والنقاد اختلط عليهم الأمر، من قبل ومن بعد :
يا خليلي تيمتني وحيـد ** ففؤادي بها معنى عميد
غادة زانها من الغصن قد*ومن الظبي مقلتـان وجيد
وغريــر بحسنها قال صفها *قلت أمران ،هين وشديد
يسهل القول إنها أحسن الأشيـ*ـاء طرا ويعسرالتحديد
ظبية تسكن القلـوب وترعا**ها،وقمرية لها تغريـد
تتغنى،كأنها لا تغني*من سكـون الأوصال،وهي تجيد
من هدوٌ وليس فيه انقطـاعٌ ** وسجو وما به تبليد
مد في شأو صوتها نفس كاف*كأنفاس عاشقيها مديد
وأرق الـدلال والغنج منه ***وبراه الشجا فكاد يبيــد
فتراه يمـوت طورا ويحيا **** مستلذ بسيطه والنشيد
فيه وشي وفيه حلى من النغـ*ـم مصوغ يختال فيه القصيد
فلها الدهر لاثم مستزيــد* ولها الدهر سامع مستعيد
في هوى مثلها يخف حليم*راجح حلمه،ويغوى رشيد
ما تعاطى القلوب إلا أصابت*بهواها منهن حيث تريد
عيبها أنها إذا غنت الأحرار** ظلوا وهم لديها عبيد
واستزادت قلوبهم من هواها*برقاها، وما لديهم مزيد
وحسان عرضن لي،قلت مهلا*عن وحيد فحقها التوحيد
حسنها في العيون حسن وحيٍ*فلها في القلوب حب وحيد
ونصيح يلومني في هواها*ضل عنه التوفيق والتسديد
لو رأى من يلوم فيه لأضحى*وهو المستريث المستزيـد
خلقت فتنة غنـــاء وحسنا ****مالها فيهما جميعا نديـد
فهي نعمى يميـد منها كبير** وهي بلوى يشيــب منها وليد
لي حيث انصرفت منها رفيـق* من هواها، وحيث حلت قعيد
عن يميني وعن شمالي وقدامي *وخلفي، فأين عنه أحيـد
سد شيطان حبها كل فــج *****إن شيطان حبها لمريــــد
ليت شعري إذا أدام إليهــا ***كرة الطرف مبدئ ومعيــــــد
أهي شيء لا تسأم العين منــه ؟ **أم لها كـل ساعة تجديــد؟
مَنْظَرٌ، مَسْمَعٌ، مَعانٍ ، من اللهـ ** ـوعتـــــادٌ لما يُحَبّ عتيد
لا يَدبُّ الملالُ فيها ولا يُنْـــــــ**قِض مـــن عَقْد سحْرِها تَوْكيدُ
أخذ الله يا وحيد لقلـــــــــبي **منك ما يأخذ المديل المقيــــــد
حظ غيري من وصلكم قـ **ـرة العين،وحظي البكاء والتسهيـد
غير أني معلل منك نفســــــــــي ****بعدات خلا لهن وعيـــــــد
ما تزالين نظرة منك مــــــــــوت ***لي مميت،ونظرة تخليــــــد
نتلاقى ، فلحظة منك وعـــــــــد ****بوصــال ، ولحظة تهديـــــد
عجبا لي ، إن الغريب مقيــــــــم **** بين جنبي ، والنسيب شريـد
قد مللنا من ستر شيء مليـــــــــح *نشــــــــــتهيه ، فهل له تجريـد
هو في القلب وهو أبعــــــــد من** نجم الثريا ،فهو القريب البعيـــــد (15)
وختاماً الخلاصة: تسألني، فأجيبك للتأكيد ،لماذا هذه المقاطع اعتبرتها تشبيباً للسيد الحلي ،والشيخ ابن الرومي؟ وتلك المقاطع حسبتها غزلاً فاضحاً للعمر بن أبي ربيعة ، ولأبي النواس النؤاسي؟أقول قصيدة عمرو،وأبيات أبي نؤاس واضح غزلهما جلياً من الشاعرين بفتياته وجاريته،المتواجدات،المستجبيات،اللاهفات ،الملهوفات،ومن المواجهات المباشرة ،والمحاورات القائمة ، والمراودات ..أبصرتني ..قالت الكبرى ... قالت الوسطى ... قالت الصغرى ... أتعرفن الفتى؟ وهل يخفى القم؟ وساقه القد؟! وأين رد رسائلي،قالت ستنظر ردها من قابلِ، فمددت كفي ثم قلت تصدقوا ،قالت نعم بحجارة وجنادلِ ونكتفي بهذا القدر القادر ...!! ، أما السيد رحمه الله ، فقال قصيدته الرائعة بمدح وحضرة علماء شيوخ أجلاء ، لا من حبيبة أمامه ، ولا عشيقة تقف وراءه ، وإنما تشبًب متخيلاً أو متذكراً على أضعف الإيمان ، ولم تكن هناك علاقة نسبية أخرى تربط بينه وبين العشيقة الموهومة من أطلال ، أو إذ رحلوا ، أو تدلل مفترض .... ، منذ المطلع ضربنا السيد بتشببه المفضوح القاضي ، قامة الرشأ ميلي ، ظماي لموضع التقبيلِ ، زهوت بأدعج ومـــــزجج ومفلج ومضــرج واسيلِ ... ، الرجل منذ المطلع شهر سيفه متشبباً ساخناً حتى الجمر ، لاهباً حتى الذوبان !! أما ابن الرومي ، فأشبعته ، وما شبعت ، وعليك أن تتفهم العرب والفرس والرومان ، فرائعته قطعة نزلت من فساح الجنان ،ولا أريد بنقدي وسردي أن أفسد عليك لذاذة الشعر الجميل ، بالحديث الطويل ، فهو الأصيل ، ومن بعد سيغمرك الغزل والنسيب والتشبيب ، وكلّ آتٍ قريب ...!!
0 comments:
إرسال تعليق