(مصير الشعب الفلسطيني لا يعني أوباما والإدارات اللاحقة والسابقة لإدارته إلا بقدر ما يخدم هدف بلاده الثابت في التطبيع العربي مع دولة الاحتلال كضمانة لأمنها والاعتراف بها جزءا من نظام إقليمي ل"شرق أوسط" جديد)
في خطابه أمام الدورة الثامنة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في الرابع والعشرين من أيلول / سبتمبر الماضي، عدّد الرئيس الأميركي باراك أوباما "المصالح الجوهرية" لبلاده في الشرق الأوسط، وتعهد بأن "الولايات المتحدة الأميركية مستعدة لاستخدام كل عناصر قوتنا، ومنها القوة العسكرية، لضمان هذه المصالح الجوهرية في المنطقة ... كما فعلنا في حرب الخليج".
وفي إشارته إلى "حرب الخليج" لم يحدد أوباما أي حرب منها، وهل هي الأولى التي غذت فيها بلاده الحرب العراقية – الإيرانية حتى امتدت لمدة ثماني سنوات فأنهكت أهم قوتين إقليميتين معارضتين للهيمنة الأميركية - الإسرائيلية، أم الثانية التي أخرجت القوات العراقية من الكويت وانتهت بفرض الحصار والعقوبات ومناطق حظر الطيران على العراق، أم الثالثة التي بدأت بغزو العراق ثم احتلاله عسكريا لمدة ثماني سنوات لم يتعاف منها حتى الآن.
لكن الحروب الثلاثة جميعها استهدفت حماية ما وصفه ب"المصالح الجوهرية" للولايات المتحدة، وكان أسلافه يصفونها ب"المصالح الحيوية" لها، وفي رأسها طاقة النفط والغاز وأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ومثل حروب "الخليج" الثلاثة تلك، فإن الحرب التي تهدد الولايات المتحدة إيران بها الآن بحجة البرنامج النووي الإيراني تستهدف كذلك حماية استمرار الهيمنة الأميركية على مصادر الطاقة ومواردها العربية والإقليمية وحماية أمن دولة الاحتلال وإبقائها القوة الوحيدة المهيمنة إقليميا.
ومثلها أيضا الحرب الدائرة الآن على سوريا التي أصبحت نموذجا لتطبيق مبدأ "القيادة من الخلف" الذي أصبح يعرف ب"مبدأ أوباما" في الإعلام الأميركي ونموذجا ل"خصخصة" الحروب الأميركية التي تقاتل الولايات المتحدة فيها بواسطة "الشركات الأمنية" و"المرتزقة الأجانب" والوكلاء الإقليميين لخفض تكلفة الحروب الأميركية في الأموال والأرواح، وهي "خصخصة" بدأها سلفه جورج دبليو. بوش وصقلها أوباما في الحرب على سوريا.
و"المصالح الجوهرية" كما عدّدها أوباما في خطابه تشمل أولا "مجابهة العدوان الخارجي ضد حلفائنا وشركائنا"، من دون أن يذكر أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تأتي في مقدمة هؤلاء "الحلفاء والشركاء"،
وثانيا "التدفق الحر للطاقة من المنطقة إلى العالم"، من دون أن يذكر أن الهيمنة الأميركية على هذا التدفق ليست شرطا لاستمراره فأهل المنطقة يريدون بيع موارد طاقتهم لا خزنها،
وثالثا "تفكيك الشبكات الإرهابية"، من دون أن يذكر أن حركات المقاومة العربية لدولة الاحتلال مدرجة على قائمة بلاده للمنظمات "الإرهابية"،
ورابعا "عدم التسامح مع تطوير واستعمال أسلحة الدمار الشامل"، من دون حتى التلميح إلى أن دولة الاحتلال هي الوحيدة التي تملك مثل هذه الأسلحة في المنطقة.
لكن "القول إن هذه هي المصالح الجوهرية لأميركا لا يعني القول إنها مصالحنا الوحيدة" كما قال، فبعدها تأتي "رؤية الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يسودهما السلام والازدهار"، و"تعزيز الديموقراطية وحقوق الإنسان والأسواق الحرة"، غير أنه يعتقد بأن "هذه الأهداف نادرا ما يمكننا تحقيقها بواسة عمل أميركي من جانب واحد، وبخاصة العمل العسكري، فالعراق يبين لنا أن الديموقراطية لا يمكن فرضها بالقوة"، متجاهلا أن بلاده ودولة الاحتلال الإسرائيلي قد استخدمتا القوة السياسية والمالية والعسكرية للانقلاب على نتائج الانتخابات الديموقراطية الفلسطينية عام 2006.
غير أن الأهم هو أن ما سماه أوباما "الصراع العربي الإسرائيلي"، وليس "الفلسطيني الإسرائيلي"، جاء في آخر سلّم مصالح بلاده "الجوهرية" وغير الجوهرية على حد سواء التي لها الأولوية في سياسة بلاده الخارجية في الوطن العربي الذي تسميه الوثائق الرسمية والأدبيات الإعلامية الأميركية "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".
ولا يمكن المرور مرور الكرام على انتقائه لكلماته التي يعكف جيش من الخبراء على تحديدها قبل أن يقولها عندما تحدث عن "الصراع العربي الإسرائيلي"، وليس "الفلسطيني الإسرائيلي"، فذلك ينسجم تماما مع تركيز إدارته في ولايتيه على حل الصراع الفلسطيني من أجل الوجود فقط في سياق حل للصراع العربي مع دولة الاحتلال على الحدود، ولذلك ركز على أن "العلاقات التجارية بين الإسرائيليين وبين العرب يمكن أن تكون محركا وفرصة للنمو".
فمصير الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير لا يعني أوباما والإدارات اللاحقة والسابقة لإدارته إلا بقدر ما يخدم هدف بلاده الثابت والمعلن في التطبيع العربي مع دولة الاحتلال كضمانة لأمنها والاعتراف بها جزءا من نظام إقليمي يكون أساسا ل"شرق أوسط" جديد يكون العرب فيه مجرد مكون واحد غير مهيمن من مكوناته.
والتطبيع العربي هدف استراتيجي لدولة الاحتلال أكده رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو عندما أخبر قناة "بي بي اس" الأميركية يوم الخميس الماضي أن معارضة دولته وبعض الدول العربية لاحتمال أن تنجح إيران "في خداع الولايات المتحدة وعقد صفقة معها" يوفر "فرصة تاريخية أمام الدول العربية" المعنية لإقامة "تعاون" مع دولة الاحتلال في مواجهة إيران، وليس سرا أن إقامة "جبهة للمعتدلين" تضم هؤلاء ضد إيران كانت هدفا أميركيا أيضا خصوصا بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
لقد ألغت المملكة العربية السعودية يوم الأربعاء الماضي، في واقعة غير مسبوقة، كلمتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي خاطبها أوباما نتيجة ل"استياء المملكة من موقف الأمم المتحدة إزاء القضايا العربية والإسلامية خاصة قضية فلسطين التي لم تتمكن الأمم المتحدة من حلها منذ أكثر من ستين عاما إلى جانب الأزمة السورية" كما قال دبلوماسي لوكالة "رويترز".
وبغض النظر عن أي جدل حول ما إذا كانت فلسطين أم سوريا هي سبب السابقة السعودية، فإن استمرار العلاقات العربية وخاصة السعودية مع الولايات المتحدة، المسؤول الأول والأخير عن شلل الأمم المتحدة إزاء القضية الفلسطينية، كان باستمرار يمثل غطاء عربيا للانحياز الأميركي الأعمى لدولة الاحتلال، الذي يستمر مجانيا من دون أن تدفع الولايات المتحدة ثمنا له من مصالحها في الوطن العربي.
كما كان ويظل يمثل سببا كافيا للاعتقاد الأميركي بأن العرب "مهيأين" لحل "الصراع العربي الإسرائيلي" من دون انتظار حل عادل للقضية الفلسطينية وعلى حسابها، كما يدل الإجماع العربي المستمر على عدم سحب "مبادرة السلام العربية" بعد إحدى عشر عاما من استهتار دولة الاحتلال وراعيها الأميركي بها وبأصحابها.
وفي هذا السياق، وفي آخر تعداده لمصالح بلاده الجوهرية وغير الجوهرية، خصص أوباما (511) كلمة من خطابه الذين تضمن (5389) كلمة ل"الصراع بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين"، استهلها بالتعهد مجددا بأن "الولايات المتحدة لن تساوم أبدا على التزامنا بأمن إسرائيل، ولا على دعمنا لوجودها كدولة يهودية"، لأن "إسرائيل موجودة هنا لتبقى".
ولم يتطرق فيها ل"احتلال الضفة الغربية" إلا في سياق "تمزيقه للنسيج الديموقراطي للدولة اليهودية".
ولم يتطرق إلى "دولة فلسطينية" إلا في سياق أن "أمن إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية يعتمد على تحقيقها"، من دون أي ذكر لقطاع غزة المحاصر على الإطلاق في كل خطابه!؟
ولم يتطرق لذكر أي دور للأمم المتحدة التي كان يخاطبها في الحل إلا دور شاهد الزور الذي تلعبه في اللجنة "الرباعية" الدولية (الأمم والولايات المتحدة والاتحادان الأوروبي والروسي) التي تنافس المنظمة الأممية في شللها.
ولم ترد كلمة "العدل" في خطاب أوباما إلا مرة واحدة فقط، عندما تساءل عن "دور الأمم المتحدة والقانون الدولي" - - اللذين تمنع بلاده أي دور لهما في القضية الفلسطينية - - في الاستجابة للصرخات من أجل العدالة" التي تنطلق في "الصراعات بين بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وداخلها أيضا" كما قال، متجاهلا حناجر الشعب الفلسطيني التي بحت وهي تصرخ مطالبة بلاده بالعدالة كأساس لمساعيها "السلمية" من دون طائل طوال ما يزيد على ستين عاما منذ النكبة.
لكن كلمتي "العدل" و"العادل" تكررتا إحدى عشر مرة في خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد يومين من خطاب أوباما، وقد حرص عباس على أن يقرن السلام الذي يسعى إليه بوصف "العادل"، بالرغم من علمه اليقين وعلم أوباما وكذلك دولة الاحتلال أن العدالة التي ينشدها لشعبه في "حل الدولتين" هي عدالة منقوصة ومجتزأة وغير عادلة على الإطلاق، كان ثمنها ما ذكره في خطابه عن "التنازل التاريخي والمؤلم" عن ثلاثة أرباع الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني بالقرار بالغ الصعوبة الذي اتخذه المجلس الوطني الفلسطيني في الخامس عشر من تشرين الثاني / نوفمبر بالجزائر عام 1988 وسماه "إعلان الاستقلال" الفلسطيني تجاوزا لتسهيل تسويقه المرفوض حتى الآن شعبيا.
لكن أوباما ربط السلام الذي ينشده بأمن ما حرص تكرارا على وصفه ب"الدولة اليهودية"، متجاهلا أن أمنها مكفول أميركيا وأوروبيا ومسنود بالعجز العربي منذ عقود من الزمن، وأنه لا يوجد أحد، كما قال عباس في خطابه، يستحق الأمن والعدل والسلام أكثر من الشعب الفلسطيني الذي يفتقدها جميعا منذ قرن من الزمان تقريبا بفضل سياسات الاستعمار الأوروبي القديم ووريثه الأميركي.
وهذه السياسات الأميركية الأوروبية لا تزال تستكثر على الرئيس عباس "سلامه العادل" المنقوص، وتضغط عليه وتبتزه لتقديم المزيد من التنازلات، وهو ما دفعه في خطابه إلى التحذير من أن القوة القاهرة المفروضة على شعبه الآن قد "تفرض" استقرارا هشا لكنها لا يمكن أن تمنع "انفجارا حتميا" للشعب الفلسطيني سوف تكون نتائجه "كارثية ومخيفة" في حال استمرار هذه السياسات في إفشال المفاوضات الجارية منذ أواخر تموز / يوليو الماضي التي وصفها ب"فرصة أخيرة لتحقيق سلام عادل".
في هذا سياق هذا الترتيب للأولويات الأميركية الإقليمية سوف تستمر على الأرجح ملهاة "المفاوضات" كسياسة لإدارة أوباما "خلال الفترة المتبقية من رئاستي" كما قال، ولن تجبر إدارته على إعادة ترتيب أولوياتها على اساس العدالة في المنطقة إلا وقفة عربية جادة أصبحت الآن ضرورة تاريخية، لكن العرب لن يختاروا اتخاذها طوعا ما لم يكن هناك أولا قرار فلسطيني بالتخلص من الرهان على الاستراتيجية الواحدة الوحيدة لملهاة المفاوضات التي انعقدت جولتها الثامنة يوم الخميس الماضي، والتي قال نتنياهو في يوم الجمعة التالي إن نتيجة جولاتها الثمانية كانت "صفرا".
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com
0 comments:
إرسال تعليق