لماذا نحب؟ وكيف نكره؟/ فاطمة ناعوت

مجلة ٧ أيام | ١ اكتوبر ٢٠١٣
في إحدى مسرحياته، سأل وليم شكسبير سؤالا صغيرًا: "ما هو الحب؟" 
تقول إحدى الأساطير الإغريقية القديمة إن البشرَ فى الأصل كانوا مخلوقاتٍ كرويةَ الشكل. لها رأسٌ واحد، به وجهان. وجسد واحد بأربع أقدام وأيادٍ. ضرب ذلك المخلوق شعورٌ بالتفوّق، فتطلّع لمكانة الآلهة. الأمر الذى أغضب "زيوس"، كبير الآلهة، فقرر عقاب ذلك المخلوق المتمرد، عن طريق شقّه نصفين، من أجل إضعاف قوته. ثم طلب إلى "أبولو"، إله الشمس والشفاء، إعادة تسوية كلِّ نصف على نحو يبدو مكتملا ولائقًا. فكان الإنسان الحالى في صورتيه: المرأة، الرجل. من يومها، بدأ كلُّ نصف يتوق بشغفٍ إلى شطره الآخر، يدور يبحث عنه ليعانقه. فإن حد العناق، استعادا تكاملهما الأوليّ الأزليّ، وتضامّهما الروحيّ، صانعيْن في توحّدهما ذلك الكائن الخرافي الأول. وصدّق الفيلسوف أفلاطون أن هذا هو سبب ظهور الحب، الذى يعيدنا إلى نشأتنا الأولى. كانت تلك إحدى شطحات العقل الإنسانيّ القديم في محاولته تفسير سرّ الانجذاب الأبديّ بين الرجل والمرأة. 
على أن الحبَّ عندي فكرته أوسعُ من شرنقة الحب الضيقة بين الرجل والمرأة. فالمقدرةُ على الحب هبةٌ سماوية عُليا يتقنها الشاعرُ الحقيقي. حبُّ ورقة الشجر الصفراء الواهنة الساقطة من عليائها الأخضر، متروكةً بإهمال جوار حائط لا يعبأ بها أحدٌ. حبُّ دودة دءوب تمشي علي الأرض بحثًا عن رزقها! حبُّ العدوّ حتى، حين نلمسُ ضعفه الروحيّ، وعدم مقدرته على منحنا الحبّ.
من بين أمتع الكتب التي قرأتُها، وترجمتها للعربية، كتاب: "Why We Love? The Nature & Chemistry of Love” ، "لماذا نحب؟ طبيعة الحبّ وكيمياؤه"، تأليف عالمة الإنثروبولوجي الأمريكية هيلين فيشر. ومُنتظر أن يصدر قريبًا في ثوبه العربي عن المركز القومي للترجمة. 
في هذا الكتاب، قدمت فيشر قراءة علمية وجدانيةً سيكولوجية لمدوّنة الحب البشري. الكيمياء التي تتبدّل في المخ الإنساني لحظة الوقوع في الحب. الدوافع الكامنة التي تدفعنا للغيرة والتمّلك والغضب إن هجرَنا الحبيبُ، ذلك الغضب الذي قد يتحوّل إلى كراهية أحيانًا. فنتعلّم عبر الكتاب أن "الكراهية"، ليست نقيضَ الحب، بل صورةٌ من صوره. حتى وإن كانت صورة مرضية سلبية. إنما عكس الحب، هو اللا مبالاة والنسيان التام. حين تحذف شخصًا من دائرة اهتمامك، فذاك نقيضُ الحب. يتطرّق الكتاب كذلك إلى الحب عند الحيوان. وهل الإنسانُ إلا حيوانٌ كرّمه اللهُ بالعقل والعلم والمنطق والتطوّر؟ 
نتعرف في الكتاب على تلك الغريزة التي تدفع الإنسان للوقوع في "شَرك" الحب. وكيف منحنا الحب أشهر الأوبرات، والمسرحيات، والروايات، والقصائد الماسّة للمشاعر، والمقطوعات الموسيقية الآسرة، وكذلك أبدع القطع النحتية واللوحات التشكيلية، مثلما ألهمنا الأساطير في الميثولوجيات القديمة، والحكايا الخرافية. وهكذا جَمَّلَ الحبُّ العالمَ، وغمر البشر بالبهجة الهائلة والفرح.
على أن هذا الحبَّ الوديع الذي يرافق الإنسان ليمنحه الفرح والسكينة والبهجة، بوسعه أن ينقلبَ وحشًا كاسرًا حين يُهانُ أو يُستخَفُّ به، فيجلبَ أشدَّ ألوان العذاب النفسيّ والجسديّ ضراوةً. الحب المانحُ الفرح، بوسعه أن يمنح الغضب المُنذر، المطاردة، القتل، الانتحار، الإحباط العميق. 
سنتعرف في الكتاب على أشهر قصص الحب في التاريخ: قيس وليلى، روميو وجولييت، باريس وهيلين، أورفيوس ويوريديس، آبيلارد وإليوز، ترويلاش وكريسيدا، تريستان وإيسلوت. وآلاف قصائد العشق، والأغنيات، والحكايا التي عبرتِ القرونَ في أوروبا القديمة مثلما عبرتها في الشرق الأوسط، واليابان، والصين، والهند، وكافة المجتمعات التي تركت مخطوطات مكتوبة.
سنتعرف على الحاجة الهائلة للوحدة العاطفية بوصفها إحدى خصائص العاشق التي حاول فلاسفة الإغريق التعبير عنها عام 416 قبل الميلاد، في الحفل الذي أقيم على شرف أفلاطون. في تلك الأمسية اجتمعت أعظم عقول أثينا على مأدبة الغداء في منزل أغاثون. وفيما كانوا متكئين على آرائكهم، اقترح أحد الضيوف أن يقوموا بتسلية أنفسهم بمناقشة موضوع العشق: كل ضيف من الحضور يأخذ دوره ليصفَ: إلهَ الحب، كما يتخيله.
بعضهم وصف ذلك الكائن الفائق بأنه الأكثر "قِدمًا" والأعلى "شرفًا" أو الأقل "حصافة" بين جميع الآلهة. وأقرّ آخرون بأن إله الحب "شابٌّ"، أو "حساس"، أو "قوي"، أو "طيب"، أو "ماكر"، أو غير ذلك. فيما أقرّ "سقراط" بأن ربّ الحب يسكن في "دولة الحاجة"، أي الاحتياج إلى الكمال. وأنت عزيزي القارئ، كيف تصفُ "إله الحب"؟
أرجو أن يجيب هذا الكتاب على شيء من خيوط تلك الشرنقة المعقدة التي لم يَنجُ بشريٌّ من حبائلها: شرنقة الحب. ربما بعد قراءته ندرك عمق العبارة العبقرية التي كتبها شكسبير في مسرحية "سيدان من فيرونيكا". 
"ما الضوءُ، إذا ما أمكنني رؤيةُ سيلفيا؟ ما الفرح، إذا لم تكن سيلفيا بالقرب مني؟"

CONVERSATION

0 comments: