ضجيج كاسح هذا الذي عم فينا حتى عُوّمت المسألة ومُيّعت المسؤولية لتضيع الحكاية بين إيديولوجية العنف الدينية وإيديولوجية القوة الاستئصالية... وما عاد لمن لا ينتمي إلى أحد الفريقين من مفر غير الصمت بعد أن أعياه عبث الأقدار وما عاد يدري من يكون المستفيد من حالة توازن الرعب الإيديولوجي هذا... وحدها الدول التي تعتمد في رسم سياساتها على مكاتب الدراسات الإستراتيجية، تستطيع التحكم بهكذا توازن. فهي الوحيدة التي تعرف كيفية التخطيط لإستراتيجية المصالح وتعي أهميتها... أما تجمعات الرعايا والمريدين والرتباء، وان كنيت دولا عندنا، فليس لها غير التشبث بأوامر المرشد المعصوم أو القائد الملهم...
فها نحن بعد الحكاية المعنونة بالربيع العربي نجد أنفسنا أمام قوم لا يتعبون يعلنون أنهم يؤمنون بآيات بينات، ثم نراهم، بعد استوائهم على عروش ما بعد الربيع ذاك، لا يخجلون إذ يكفرون بقضايا بينة... ولا يمر يوم إلا ويتضح لنا مدى استعلائهم على المجتمع... ولعل التفسير الوحيد لمصدر استعلائهم هذا، هو شعورهم بالتسامي الأخلاقي فقط لكونهم يتكلمون باسم الدين... فما أن أحسوا بامتلاكهم شبهة حكم حتى انخرطوا بجشع في فحش الرأسمالية... وانطلقوا بسذاجتهم المعهودة في مفاوضات، ما أتقنوا حتى الابتسامات اللازمة لها، مع مؤسسات مالية دولية لها باع طويل في عملية التفقير الممنهج للشعوب... والأكيد أنهم تناسوا معرضين أن كل الآيات البينات، كما القضايا البينة، تعتبر هذا النمط من التعامل المالي رجسا من عمل الشيطان... إذ أثبتت التجارب أنه يحيل معظم المجتمع إلى جماهير مهمشة خارج مجال العمل والإنتاج، ومن ثم خارج نطاق الاحترام والتقدير، وأخيرا خارج اعتبار الذات قيمة بحد ذاتها...
كل فهمهم لم يكن يتجاوز تعريف السياسة بأنها مرادف للبراغماتية وانتهاز الفرص(...) تحالفوا مع القوى العسكرتارية ظنا منهم أنهم بذلك سيأمنون شرها، وسعوا بشراهة للتحكم في كل مفاصل الدولة... وحتى يسترضون الخارج وأعلنوا الجهاد حيث ترتضيه أمريكا(...) بل تجرأ كبيرهم علنا وتمنى الرغد لدويلة العمالة وخاطب رئيس كيانها بكل عبارات الود والمحبة والتقدير... لكنهم أغفلوا شرط أن كل ذلك لن يجدي نفعا ما لم تكن الحصيلة معبرة عن إرادة الناس...
استغل حلفاؤهم غباءهم هذا، فأسقطوهم واسقطوا معهم كثيرا من أوهام مريديهم وأمانيهم الخرقاء... كما وتمكنوا بدهاء المتمرس من إرجاعهم ليلعبوا دور الضحية المظلوم الذي، وللحق، أتقنوه لسنوات طوال حسبوا فيها الدولة مؤامرة عليهم وعلى الدين، وجعلوها في لا وعيهم لغزاً مستخدمين تعبير الدولة العميقة... مشهد لم يكن ليخفى على ابسط متتبع لأحداث شبيهة وقعت في الخرطوم منذ زمن غير بعيد، حيث تحالف نفس الطرفين ثم اختلفا فكانت النتيجة لكل عبثهم أن قُسِّـم السودان...
واليوم، يحق لي أن أتساءل، وببعض تشفٍّ ألوم عليه نفسي، عن المرجعيات في تحليل المسار التاريخي لشبهة حكم جماعات "الإسلام السياسي"، لأكتشف غياب العلوم السياسية عن مكونات هذه الجماعات التي ما فتئت تزعم أنها تضم شيوخا ودكاترة ومحللين وصناع الرأي العام... ثم أعود وأتأكد أن العواطف والحسابات الصغيرة هي ما يحكم المواقف نحو التطورات والوقائع عند رجالاتها... ولعل هذا ما تؤكده عمليات التضليل والتلهية البدائية التي كان يمارسها بوقاحة شيوخ الجماعة وقادتها على الأتباع والمريدين بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان، من عينة أن سيدنا جبريل ـ عليه السلام ـ ظهر في اعتصام رابعة العدوية(...) أو أن شيخا صالحا رأى بعد غفوة في المسجد النبوي أن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يصلي وراء محمد مرسي...
أعلم أن المريدين هنا وهناك محبطون يائسون وحزانى مكتئبون يسألون الله اللطف في القضاء... كما أعلم أن منهم من سيكابر ويعاند ويقرر المضي في المناطحة بعد أن لم يتبق له إلا الموت أو الهزيمة... ولكن المعركة لمن يعرف الآن في خرائط السياسة صارت محسومة ضدهم على كل المسارات... وأن ليس لهم بعد اليوم من الأخبار إلا سيئها. وقريبا ستتردد في جنبات الأرض جملة كثيرا ما استصغرونا يوم كنا نرددها منفردين: " لقد بدأ خريف إخوان ربيع الناتو العربي"... وبعد حين سيقرأ الجيل القادم عن صراع قوى كبرى في مرحلة كان يتشكل فيها نظام ما بعد أفول الإمبراطورية الأمريكية مع صعود روسيا والصين ودول البريكس... وسيقرأ عن صراع على النفط وخطوط الغاز... أما من يموتون اليوم في صراع "الثورة" أو "الانقلاب" فلن يكون لهم بالتاريخ أثر بعد عين... ذلك لأن التاريخ، وان كان يصنعه المغلوبون، فوحدهم الغالبون من يكتبه. وانه غالبا ما تتم مصادرته...
يبقى فقط أن نقول أن عزاء الصادقين وذوي النوايا الحسنة في ثورات "الربيع العربي" هو ألا ثورة انتهت من حيث بدأت، ولا كما كان مقدراً لها لدى الذين انطلقوا بها... فالنتائج غالبا ما تكون غير الرغبات. لكل منهما طريق، والطريقان ربما افترقا سريعا في ثورات ربيع العرب... فقوى الاستئصال اليوم تواجه خصما، ومهما هولته الآلة الإعلامية، فهو يستحق الشفقة لا المواجهة لشدة غبائه... وكم هو قبيح أن يكون المرء قويا إلى الحد الذي يضطر فيه للتهويل بقوة العدو حتى وان كانت وهمية... والمهولون اليوم بقوة الإخوان وأذنابهم صنفان: أول لا يحتسب النصر نصرا ما لم يكن على ند أو شبه ند على الأقل، فهو مجبر على التهويل كي يتذوق حلاوة نصره... وصنف ثان مازال في سباته العميق نسأل الله له العفو والعافية.
المغرب
0 comments:
إرسال تعليق