بعد مسيرة خمسة أيام
بين المسالك الوعرة
منتعلا خفين من جلد الماعز الخشن
وصلت الى نقطة "الحريك" *
قبل الرحيل الى المجهول
والهروب صوب البحر
وضعت حفنة من حبات الرمل
في جيبي
انتقيتها من شط بلادي المفضل
ثم تركت نعالي المهترئة
عند باب البحر
الليلة سيكون العبور
كان القارب مجهزا للابحار
الليلة هادئة
السمك في اجازة
والطحالب ناعسة
لا هدير ولا شخير
النجوم شاهدة على ذلك
والبحر ينتظرنا لمبارزته
المعركة بين الأمواج
لم تبدأ بعد
ربان القارب
في مقهى الميناء
يعد حصيلة تكلفة الابحار
الى الضفة الاخرى
الابحار سيكون
على الساعة الواحدة صباحا
انسللنا نحو القارب
الموشوم باللون الأزرق
كان قائد القارب
ينتظر قدومنا
مختبئا وراء الصخور
وهدير البحرينكسر
على ساحل طنجة الناعسة
من بحر الى بحر
ننتظر الموت على قارب خشبي
فوق أمواج متعبة
وبحر لعوب
الى أن جاء يوم العبور
فوقفنا أمام البحر
نتوسل الى حورياته
يا ليت لو حفروا لنا نفقا تحت البحر
يا بحر لا توصد أبوابك النائية
وقبل ان يستيقظ البحر من نعاسه
كان الفجر يركب آخر أمواجه
وقد كان كل شئ هادئا
حين اقتربنا من القارب
ركضنا اليه متسابقين
فاشار علينا ربان القارب بالجلوس
فامتثلنا
ثم دخلنا البحر خلسة
ثلاثون جثة
ومضغة جاهزة للحيتان
على عرش الليل البهيم
كان القمر يضاجع نجومه
والبحر يلفظ قرابينه
صديقي يرمي نفسه
في لج لا قرار له
ثم يصيح بنا:
انه بحر مليئ بالالغام
ان لم نتقن السباحة
سنغرق حتما
وسيقدودنا الى مرفأ
معلق بين السماء والأرض
بينما كانت النوارس تحلق فوق رؤوسنا
كان قاربنا العتيق يبحرعكس التيار
أما الغربان فكانت تتجمل
برغوة البحر الأبيض المتوسط
ما أعتدت على الابحار
بلا جواز سفر ولا تأشيرة
لعل بطاقتي الوطنية
قادرة على تبديد
هول البحر
وأمواجه الهائلة
أنا الذي غازلت الموت
أكثر من مرة
وما زال الهروب
يتسكع في مخيلتي
والآن صرت كسمكة القرش
التي ترفض أن تغادر البحر
من أجل تحقيق حلمي
سأصارع الامواج
وأعارك أعالي البحار
وأركب المخاطر
ولا يهمني ان كان العبور
يفضي الى الموت البطئ
لاشيء يضاهي هول البحر
لكن عبوره
مغامرة سهلة المراس
أريد الوصول الى الضفة الاخرى
لم يبق مني غير جثة عائمة
فهزيمة واحدة تكفيني
سأتم رحلتي ولو بمجداف واحد
ولو في بطن الحوت
واذا تعسر ذلك
فسأعبره مشيا على الاقدام
أفتش في نفايات البحر
عن غنائم
كنستها الأمواج الغاضبة
مجدافي وحده الكفيل
بايصالي الى مرعى خصب
عند ذلك سأكشف على طاولة الرهان
كل أوراقي الثبوتية
وسأحرق كل ما تبقى
من حظي المغسول بتعاويذ
كتبها المنجمون
على مؤخرة قردة شمطاء
وسأعيد كتابة وصيتي من جديد
وسأبوح لكم باسراري
قبل موسم الحداد
وسيكون البحر شاهدا على ذلك
أسحب رائحته الى قاربي لينعشه
أنا الآن أتعارك مع ريح عاتية
قاربي في بحر متلاطم الأمواج
وجثث مبللة باردة كالصقيع
وانتظر الريح الغربية
لتحملني بعيدا
ما ابعد تلك الضفاف
وما أقرب الأفق
حين يلثم وجه البحر
غرقى مفقودون
ورسالة في قارورة
ساقتهم الامواج
الى شاطئ مجهول
يبدو أن البقاء في البحر
يشبه خلود جلجامش في بابل
لماذا لا نكون كالاسماك
لا تحمل بطاقة هوية
في مملكة البحر
ولا ترتدي لباسا بلاستيكيا
وظل البحر يحدثنا عن زرقة مياهه
وعن الأمواج التي تحرض الطحالب
على المد والجزر
يركل البحر امواجه
فتثور غضبا
وهوالمحاصردوما
بعاصفة من لون السماء
ولفافة من الزبد الكثيف
بيد أن الممر المائي طويل
لا يزال غائرا
وقاربي يتخبط فيه ببطء
والامواج تنأى بنا عن شط الامان
كيف قدر لي أن اذهب الى البحر؟
ما الذي ينبغي علي أن أفعله؟
هذا هو قدري
ومصيري المحتم
"الحريك" عبر قوارب الموت
هو الامل المنشود للملايين
من العاطلين عن العمل
حرفة دنيئة تمتهنها
خلية تهريب المهاجرين السريين
الى جزيرة ابريا وايطاليا
فوق بحر زاخر بالغضب المحموم
يسكنني الهروب الى الضفة الأخرى
والتحليق الى آفاق بعيدة
كما أتوق الى عشب ندي كثير الاخضرار
الامواج العاتية
تلتهم الارواح البشرية
فيتحول الزبد الى مقبرة عائمة
قاربي في عرض اليم
جاثم على الماء
في دهليز عائم
تهدهده الامواج العالية
ركوب اهوال البحر
يتبعه الغثيان والدوار
والغريق يستنجد
فمن يقذف به الى اليابسة
فمن يتطوع ؟
في جوف الليل
ركبنا البحر وأهواله
قاربنا المليئ بالأجساد
يصارع أنفاسه
فوق صهوة موجة عنيدة
ورياح مخاتلة
كسرت قاربنا المنكوب
وتذكرت أنني لا أجيد السباحة
وكنت أكره الماء
اعترتني حالة ذهول شديد
فشعرت بدوار
وفكرت بأن الابحار
بلا أقمصة وفلائك النجاة
وبدون مرآة عاكسة لاشعة الشمس
هو مغامرة خطيرة
ورهان غير رابح
لا يؤدي الى تربة الفردوس الموعود
لم يبق لي من أحلام
سوى هذيان كبوس
ما همني ان صرت غريقا
فما زال لهيب "الحريك"
يشتعل بداخلي
يتسائل البحرالحزين
من أنتم أيها التعساء؟
من أين أتيتم
ولماذا تغزون مياهي
بقوارب هشة ؟
من أنتم أيها الغرباء
هل لديكم وطن
هل ضاقت بكم اليابسة؟
أيها الغرقى
في أمواجي العاتية
سوف نقيم لكم قداسا
تباركه القراصنة
ايها الغرقى
تزاحمون سمكي وطحالبي
وطيور السنونو
رفقا بنا أيها البحر
يا أيها الملك الثري
نحن بؤساء اليابسة
جئناك على لوح
نطرق بابك
متوسلين بموجك
أن يبارك لنا العبور
الى الضفة الأخرى
الى الأقاصي البعيدة
الى مملكتك العائمة
جئنا لندفن
ما تبقى لنا من الاحباط
فهل يتسع لنا صدرك؟
جثث تطفوا
فوق صهوة البحر
وثمة مهاجر متعب
يحمل أمانيه المتشظية
ويدخل في نفق مظلم
على متن قارب متوتر
تتقاذفه امواج بحر هائج
لماذا لا نحفرله بحرا جديدا
ونضع فيه ماء عذبا
وامواجا من حرير
ورمالا من الزجاج الخالص
وطحالب وفراشات
ورياحا صديقة
تتعاطف مع سفنه و قواربه
هذا المهاجر السري
يتوق الى شواطئ بلا مرافئ
فهو مطارد
و شرطة خفر السواحل ترصده
لماذا لا نحفر بحرا
ونحرر الاسماك
كي تجرب العيش على اليابسة
ترفض السنونوات التحليق فوق بحر
لا يملك أمواجا مضطربة
ولا يتوفر على سترات النجاة
في قاربنا العتيق
فتاة مغربية
و طفل أندلسي من أصل موريسكي
وعجوز أمازيغية
من عمق جبال الاطلس
وثلاثون مهاجرا افريقيا
الى الذين لا يعرفون اين يقع بلدي
على خريطة الماء
نقول لهم ليس لديكم ذكاء الطحالب
ولا حكمة السنونوات
للبحر باب في مضيق جبل طارق
لا يفتحه الا "الحريك"
يعتريني هول شديد
وأنا السندباد المغربي الجديد
دلني يا أيها البحر
على مرتع آمن
بين أمواجك
لعلني أسكربرغوة زبدك
حتى ولو كان فاترا
تتوهج مشقة العبور
تحت بوابة الأمواج
وصيد وفير ينتظرني
رمال ملأى بالجثث
تجرها الطحالب
نحو شواطئ مهجورة
ومنذ ذاك الحين
وأنا أسأل هل مازالت الضفاف بعيدة
عن مرافئ النجاة
ماذا تخبئ في منعطفاتها
وهل ما زال البحر يجلس على أريكته الرملية؟
ويضاجع طحاليبه فوق الموج الثائر
فيسرع طائر النورس نحوي بالجواب:
كم هي خصبة تلك المراتع
الرابضة فوق الشاطئ الآخر
كم هو وافر ذلك الحصاد
على جسد الماء
كان البحر يتوضأ برغوة المد
حين دهمته قوارب الموت
وكان يقيم كمينا غادرا
وحدها المرافئ تبكي
والسنونوات تكفكف دموعها
يجدل البحر ضفائر الماء
ويتحسس خصر الأهداب المخملية
أعشابه تستحم فوق الرمال العارية
السمك يخرج من البحر حيا
ونحن ندخله أمواتا
وهل "الحريك" سوى الثأر
الذي نفدي به الكبش؟
أم هو انفراج للانتحاريين
جثث تطفوا على وجه الماء
قرب أريكة رملية
يجنح قاربي هاوية
فتتلاعب به أمواج وحيتان
يضيق البحر بأشرعتنا وقواربنا العتيقة
وأمواجه لا تهدأ
والقارب الذي تداعبه العواصف
صار شظايا عائمة
من موج العبور حتى شاطئ النجاة
صار هذا الشاطئ
لا يتسع حتى لرفات البحرالميت
ثمة موجة شاطرة
تطل عليه
وتغازل أفقه اللعوب
هذا الشاطئ
يكره السمك الداكن والمجعد
والحيتان الأسطورية
آه ..كم يحلوا له الابحار
بين المد والجزر ...
**
بن يونس ماجن
لندن 2007-2009-
شاعرمغربي
الحريك: كلمة بالدارجة المغربية تعني الهجرة السرية الى أروبا
والنصوص من مجموعة شعرية تحمل نفس العنوان تصدر قريبا في القاهرة
0 comments:
إرسال تعليق