محمود درويش.... أقربُ من زهرِ اللوزْ/ نمر سعدي

(1)

الآنَ بعدَ نزولكَ العبثيِّ عن أولمبَ..

بعدَ هشاشتي كقصيدةِ الصوفيِّ

بعدَ مدى انتظاركَ في مهبِّ الحُبِّ

مَن قد لا تجيءُ لوعدها أبداً

وبعدَ دمِ اشتعالكَ فيَّ كالعنقاءِ

بعدَ رمادِ روحي... ذلكَ المنثورِ في بحرِ الأدرياتيكِ

بعدَ دموعِ أمكَّ في ظلامِ السبتِ فوقَ ثرى يديكَ

وبعدَ كُلِّ نساءِ بيكاسو ودالي.. والغنائياتِ.. ألحانِ البكائياتِ

بعدَ دمي ينامُ على حوافِ الشعرِ والشطآنِ

بعدَ هواكَ....أعجزُ أن أموتَ أمامَ موتكَ ميتَتي الصغرى....

وكلُّ الموتِ يا محمودُ – يا أشهى المرافئِ في هوى الأقمارِ-

كلُّ الموتِ عجزُ الكائنِ العربيِّ شيلَ مسدَّسٍ

يغفو على مرمى قرنفلتينِ

والتصويبَ في فرحٍ على تاريخهِ.....



(2)



الليلةُ العمياءُ رغمَ فداحةِ الأشياءِ ليسَ تنامُ

تتركني أعضُّ محارَ هذا الليلِ

كالمجنونِ من حزني.. وليسَ أنينها المرئيُّ يتركني أنامُ

على انهمارِ الشوكِ..ليسَ تصوغني شجراً لصرختها

ولا بشراً سويَّ نصاعةِ الأحلامِ.. طهرِ الياسمينةِ

وانهماراتِ الفراشاتِ الفقيرةِ فوقَ ضوءِ معارجِ البلَّورِ

قمصانِ النجومِ الفارسيَّةِ

آهِ ليسَ تصوغني سهَراً يسامرُ قلبها المكدودَ

حتى يرتضي عطشي شفاهَ عبيرِ

من يهوى... إلى أن تشرقَ الشمسُ الأخيرةُ في الوريدْ

(3)

ويكونُ أن أصغي لعينيكَ المشرَّدتينِ

في برِّ المزاميرِ الشفيفةِ والخفيفةِ

مثلَ جرحِ النايِ.. والعسلِ المقطَّرِ في العشيَّاتِ المذَّهبةِ القوافي ..
أقتفي جرحَ البنفسجِ فيهما...

أصغي لعينيكَ المعذبَّتينِ مثلَ نبوءةٍ سرِّيةٍ

تتقاسمانِ اللوحَ والقرآنَ والتوراةَ والإنجيلَ...

أصغي دونَ أن أصغي.. وأكتبُ في جحيمِ عواطفي الليلَّيةِ الخرساءِ

بعضَ الماءِ في مرثَّيتي بدمي ودمعي الأسودينِ

ولا أصدِّقُ غيرَ عطرِ الزنزلختِ...

وصوتكِ المشحونِ بالحلمِ النديِّ...

وغيرَ ليلِ حدائقِ العُنَّابِ ملءَ سماءِ آبَ..

وشهقتي البيضاءِ.. غدرِ الأصدقاءِ.. وطعنةِ الدنيا

أصدَّقُ ما تقولُ هناكَ عنكَ وعن سواكَ

ولا أصدَّقُ أنَّ جسمكَ صارَ خلفَ البحرِ والرغبوتِ

زنبقةً مثلَّجةً... ونائمةً... وحالمةً

تصوغُ ضبابَكَ الأعلى من الأوتارِ

أو من رقصةِ البجعِ الأخيرةِ.. وانكسارِ السنديانِ

وحُبسةِ الدمعِ البليغةِ في مرايا القلبِ

في سُدفِ الذهابِ إلى خريفٍ مُوجَعٍ ومؤجَّلٍ

كخطاكَ فوقَ بحيرةٍ خضراءَ يا قلبي.../



كأنَّ أصابعَ العبثِ الخفيَّةَ راوغتكَ وراودتكَ عن النـزولِ

عن الوداعِ... وعن مقاسمةِ الجمالِ... كأنَّ ضوءَ غزالةٍ سحرِّيةٍ

في الغابةِ القمرِّيةِ الأقواسِ والأجراسِ... تصرعهُ الذئابُ...

وفجأةً من مرتقى مللي ومن نومي أشبُّ كجمرةٍ

في قلبِ هذا الليلِ تحرقني

أدبُّ كآخرِ القتلى... أربُّ زهورَ ما ترثُ القيامةُ

فوقَ هذي الأرضِ...

رائحةَ التذكُّرِ.. لحظةَ الحُبِّ المُقدَّسةَ العصيَّةَ

مثلَ وردِ الثلجِ فوقَ فمي

أصبُّ على ضفافِ غدي

أشبُّ هناكَ عن طوقي.. وعن جرَيانِ أسئلتي القديمةِ والجديدةِ

لن أصدِّقَ وردَ هذا الموتِ أو صفصافهُ الأزليَّ

بل سأصادقُ الأبدَ الوحيدَ هنا كذئبِ الرملِ يتبعني وأتبعهُ

يلامسني وألمسهُ... إلى أجلٍ مُسَّمى

(4)

حنَّاءُ شمسكَ في دمي شبقٌ إلى ورقِ النساءِ..

ندىً... صدى العُذريِّ

شوقُ العاشقِ الصوفيِّ.. ضوءُ الكائنِ الشمسيِّ..

والحبَّارِ في جسدي.. وحُمَّى

(5)

يدعوكَ صيفُ المريمِِّيةِ كي تودِّعهُ

على مرأى شتاءٍ شاعريِّ الروحِ من ريتا...

ومرمى وردةٍ بيضاءَ تحفنُ وجهَ يوسفَ فيكَ....

ثُمَّ على شذى قدميكَ.. ملءَ جمالكَ السحريِّ

والفجريِّ تدمى

(6)

محمودُ لا توقظْ دموعَ قبائلِ الطيرِ المهاجرةِ العنيفةِ والعصِّية

محمودُ لا توقظْ دمي الغافي على قرعِ البرابرةِ الذينَ تناثروا

بيني وبينكَ مثلَ أحجارِ الكواكبِ والحظوظِ على بساطِ النردِ...

لا توقظ دمي واتركهُ محمولاً هناكَ على حوافِ الدمعِ

مشبوحاً على الدنيا

مسيحاً للنساءِ المخطئاتِ...وللرجالِ المخطئينَ

الحالمينَ بعالمِ الفردوسِ ...

لا توقظْ دمي بحنانِ ربِّكَ

فوقَ هذي الأرضِ... فهو كمائكِ العاجيِّ يجري

دونَ أن يجري

ويشهقُ ميِّتاً في جُبِّ يوسفَ...

حُبِّ من ذهبوا بلا معنى إلى المدنِ الخفِّية

محمودُ سلِّم لي على لوركا إذا صادفتهُ

قبِّل يديهِ - نيابةً عني - .... وبسمتهُ الشقِّيةْ

(7)

في التاسعِ المشهودِ من آبِ الحزينِ

وفي انتصافِ الليلِ يوم السبتِ

كنتُ مرنَّحاً بالصمتِ أو بالعوسجِ البشريِّ

أشرحُ لهفتي لسواي خارجَ أمنياتي... مُقفلاً وهجَ الحدائقِ

في حدودِ قصائدي

أو قافلاً شعراً وأحلاماً مضببَّةً إلى بيتي ...

فهاجمني نشيدكَ أنتَ

هاجمني بكاءُ الزنزلختِ عليكَ في أوجِ السماءِ

ونازعتني زرقةٌ مجنونةُ الأصواتِ

(ماتَ اليومَ حوذيُّ القصيدة والندى والأقحوانِ ....

حبيبُها الممهورُ بالأمطارِ والإنشادِ... ماتَ ربيبها درويشُ

عرَّافُ الرؤى الأزليُّ....

زهوةُ هذهِ الأرضِ النبيَّةِ.... عرسُها العالي....

وأجملُ شاعرٍ في الكونِ حنَّى طهرها الحافي وروعةَ سحرها....

من شعلةِ القدمينِ حتى شعرها)

وجمحتُ في قلبي كما الفرسِ العنيدةِ

وانتبهتُ... فكيفَ أشرحُ بالمجازِ وبالبساطةِ

ما أصابَ النجمَ في عينيَّ من رؤيا ؟

وكيفَ أعيدُ ترتيبَ العواطفِ ؟

كيفَ أحملها كسيزيفِ اللعينِ ؟ وكيفَ ..؟/


ها أنِّي انكسرتُ عليَّ حاصرني المجازُ سُدىً

وبحرُ الكاملِ الهدَّارُ حاصرني وشتتَّني نقاءُ زهاءَ أيامٍ بلا عددٍ

أقولُ الشعرَ أو أهذي على أمواجهِ ...

قلبي مصابٌ بالغناءِ الليلكيِّ كقلبِ أودسيوسَ

في ترحالهِ الأبديِّ

أرثي مُرغماً نفسي ولا أرثيكَ يا محمودُ

يا طفلَ الندى والشمسِ..../



فجري تائهٌ يسعى على قدمينِ غائبتينِ في البلَّورِ..

لا يسعى.. يطيرُ..

يخفُّ مثل نجومِ أغنيتي التي غطَّت إرميا في الرثائِّياتِ...

مثلَ طيورِ قلبي في مدى رؤيايَ تسبقني

تشفُّ وراءَ ثوبِ الزرقةِ الملساءِ في الشفقِ المُعلَّقِ

في مدى الما بينِ

تحرقني كحبرِ رسالةٍ عنقاءَ فرعونيَّةِ اللعناتِ هوميريَّةٍ...

فجري يهفُّ كأنهُ قمرُ المجازِ

ولا يجفُّ دمي ولا دمعي يكفُّ...

ترفُّ آخرُ قبلةٍ بي نحوَ روحكَ في الأنينِ العاشقِ الأبديِّ تقبعُ..

في بكاءِ الضوءِ.....

في الطرفِ المراوغِ حاجتي لحنينِ صوتكَ

وانهماركَ في رمادِ الظلِّ والأشجارِ..

في عبقٍ يذرذرهُ المسيحُ الطفلُ

في وجهِ البحيراتِ التي ولدتكَ والريحِ التي حملتكَ

عبر فصولِ ريتا.. زهرةً لوزِّيةً بيضاءَ أقربَ من شفاهِ العاشقينْ

ليديكَ.. أو للمخملِ الغافي..

لروعةِ نهركَ الحافي

على جمرِ السنين

(8)

متأمِّلاً ما هبَّ من معناكَ فوقَ هجيرِ ألفاظي

فتنحلُّ الفراشاتُ المُلوَّنةُ الرفيفِ على فراغِ يديَّ

ثمُّ يسوطني ويسوطها ألقُ الهواءْ

يا ليتَ زرقاءَ اليمامةِ والقيامةِ أنبأتني سرَّ عينيها

لكنتُ قطعتُ صدرَ الأرضِ لثماً موجعاً

وغسلتُ جرحَ الروحِ في عسلٍ يزوَّجُ مقلتيكَ إلى الضياءْ

يا ليتَ زرقاءَ اليمامةِ علَّقت عينيَّ كالمصلوبِ في أبدِ الخواءْ

ونعيقُ فريِّسينَ من حولي.. ومنسِّيينَ منسلِّينَ

من أحشاءِ تاريخِ البغاءْ

لو أنها لمَّتْ رمادي مرةً أخرى

وضمَّتْ ملحَ هاويتي إلى غدها

لكانَ دمي أضاءْ

ولعادَ عمري وردتينِ وبسمتينِ ودمعتينِ إلى الوراءْ

(9)

نايُ قلبيَ ينكسرُ الآنَ في ريشِ عنقاءَ بحريةٍ

ويبيحُ الصدى للصدى.... وجمالَ الندى للردى

نايُ قلبي يتوِّجني خاسراً فوقَ عرشِ السرابِ....

وسنبلةُ الجسدِ الشاعريِّ تقومُ وينفرطُ الحبُّ منها

ويطلعُ من خصرها الأنثويْ

قمرٌ حاضرٌ في غيابِ اشتهاءاتهِ

قمرٌ حائرٌ... قمرٌ شاعرٌ يتنـزَّلُ من هالةِ الدمعِ والدمِ

من بسمةٍ يتشكَّلُ...

أعضاؤهُ البشرِّيةُ شمعيةٌ تحتفي بتشرُّدِها

وبأقواسِ أطيافِها

تختفي ثمَّ تبدو كجسمِ الملاكْ

تضيءُ مواجعنا وترمدُّها

(10)

من أنا لأقولَ لكَ الآنَ يا شاعري

ما أقولُ لكَ الآنَ ؟

يا مبتلىً بفراشاتِ ريتسوسَ خلفَ البحارِ

وعطرِ العذارى

بأوجِ التوَّحدِ والانتظارِ

من أنا لأقولَ لكَ الآنَ ما سأقولُ لكَ الآنَ ؟

يا أبلغَ الصامتينَ ويا أجملَ الذاهبينَ

لنسوةِ طروادةِ الفاتناتِ ...

وروحكَ كالبرقِ تجري على نارِ سيفِ النهارِ

لحنُ بُحَّةِ صوتكَ يأخذني ....

آهِ كم كانَ يومكَ أجملَ من أمسنا

كم حريرُ يديكَ بأضلاعنا ناشبٌ

كم جمالكَ.... كم سحرُ هاروتَ فيكَ

يورِّخُ يا سيِّدي لانكساري

(11)

هل يصدِّقني أحدٌ منكمُ ؟

هل يصدِّقني أحدٌ من قبيلةِ لوطْ

أنني كنتُ أبكي لأسبوعَ ...

أهذي لأسبوعَ بالشعر... بالملحمِّياتِ

لكنني حينَ قمتُ لأكتبهُ ضاعَ مني وشردَّهُ المنطقُ

ولو أنني قد كتبتُ رثاءً على قدرِ دمعي

إذن لكتبتُ معلقَّةً دونما آخرٍ.. سحرُها يفلقُ

(12)

فلسطينُ محلولةُ الشعرِ تندبُ عاشقها

وتولولُ كالأمهاتِ الحزيناتِ

تبحرُ في بحرِ أدمعها ...

والأكفُّ التي لوَّحتْ لكَ يا سيِّدي زورقُ

فلسطينُ تلثمُ عينيكَ.... مخملَ كفَّيكَ...

تلثمُ منكَ الشذى بالشذى

يا لهذا الوفاءِ وهذا الجنونِ الجميلِ بحارسِ شمسِ أنوثتها

يا لأحلى الشفاهِ التي كانَ جنَّنها المفرَقُ

(13)

ماتَ من حزنهِ ما تركتَ وحيداً من الأحصنة

ماتَ جسمُ اشتياقيَ

واشتعلَ الشيبُ في الروحِ سوسنةً سوسنةْ

آهِ يا صاحبي في الطريقِ إلى أمسنا

انكسرَ الظلُّ منَّا على مئذنةْ

(14)

تتناثرُ أحلامُ روحي وروحكَ

فوقَ الطريقِ السحيقِ ولا تصلُ الأندلسْ

كي تضمَّ إلى صهدِ أشواقها

لحظةً تحتوي قلقَ الأزمنةْ

كي تقبِّلَ في عشبها في السماءِ

وفي صمتها وثرى صوتها

كلَّ ما شعَّ من ألقِ الأمكنةْ
(15)

ماتَ كلٌّ على حدةٍ

مُتَّ أنت هناكَ على صدرِ من عذَّبتكَ

ومن قلَّبتكَ على نارِها

زمناً كانَ يكفي لخبزِ الأساطيرِ

أو ربمَّا دفنها في الترابِ وفي الثلجِ ....

مُتَّ وحيداً هناكَ بلا أيِّ سنبلةٍ حيَّةٍ

وأنا ماتَ قلبي هنا

ماتَ قلبي هنا

ماتَ قلبي هنا

CONVERSATION

0 comments: