نشأنا في عين إبل وسركيس أبو أنطوان اسم يملأ القرية فكل ما نحتاجه من صنع سركيس من السراج الذي يتربع على السكفة فوق الموقدة ويضيء بنور زيته البيت، إلى الكلن الذي ينقل الماء من العين إلى البيوت وقد حل محل جرار الفخار ويمكن تحميله بسهولة على جانبي الحمار، إلى الكردل الذي ينشل به الماء من البئر، والأبريق الذي يرافق الفلاح إلى الحقل، والسطل المستعمل في كل شيء، وحتى الصحن والبحقوم والرطل والأوقة وحدث بلا حرج عن تلك الأدوات المستعملة في ذلك الحين والتي كانت كلها من صنع المعلم سركيس أبو أنطوان الذي يلاعب التنك والقصدير بيديه الحازقتين ليصنع كل ما تحلم به من أدوات وكل ما يمكن أن تحتاجه. ولكي تعرف مقدار أو مدى وسع صنعة المعلم سركيس يومها يمكنك مقارنتها مع الأدوات البلاستيكية التي تستعمل في البيوت اليوم.
سركيس طولوجيان وزوجته وأولاده كانوا من العائلات الأرمنية القليلة التي وصلت إلى عين إبل بعد المذبحة التي حلت بالأرمن في جنوب تركيا اليوم وتهجر الناجون منها نحو سوريا ولبنان.
في كتاب بعنوان "وثائق طلعت باشا المتبقية" للمؤرخ التركي مراد بردقجي والمنشور سنة 2008 حيث يقول المؤرخ المذكور أنه حصل على هذه الوثائق من أرملة طلعت باشا سنة 1982، يذكر الأخير بالتفاصيل عمليات الإبادة التي أمر بها في المقاطعات الست التي يقطنها الأرمن وهو يفاخر بأنه أنهى في عدة شهور ما عجز عنه السلطان عبد الحميد خلال ثلاثين سنة.
أعداد القتلى تقدر بين المليون والمليون ونصف من الأرمن، ويزاد عليها حوالي التسعمئة ألف من المسيحيين بين سريان وكلدان وآشوريين ويونانيين. وهذا التنظيف العرقي بدأ مع السلطنة العثمانية ولكنه لم ينته كما يبدو مع استسلامها في 1918 ولم ينجو لبنان من أحد وجوهه الذي فرضه جمال باشا السفاح يومها بالقتل جوعا.
لم تعترف تركيا حتى اليوم بالمجزرة مع أن المجازر التي حصلت بعد هذا الزمن مع ستالين في روسيا ومع هتلر، في بولونيا أولا ثم كل أوروبا، تم الاعتراف بها من قبل اصحاب الشأن وأدين الفعل لأن الفاعل كان زال من الوجود. والاعتراف بالجرم موضوع أساسي ليس فقط من أجل الضحية أو ما قد يترتب على الجهة الفاعلة من تعويضات أو التزامات، إنما أيضا كي لا تبقى في الذاكرة الانسانية فعلا يمكن تكراره مع أي شعب آخر.
ما نشهده اليوم مع داعش وغيرها من أدوات الارهاب يتعلق بشكل أو بآخر بهذا المفهوم فلو أن عملا مثل هذا رفض بشكل قاطع من الدولة التركية العلمانية بعد السلطنة واعترف أتاتورك نفسه يومها بأنها تصرف خاطيء وغير مقبول، لربما لم يجرؤ ستالين ولا هتلر على فعلتيهما، ولما بقي في ذهن بعض الاسلاميين اليوم أحلاما بالقضاء على كل من يخالفهم الراي أو المعتقد.
والقيام بالمجازر والابادة لا يقتصر فقط على الاختلاف بين الضحية والجلاد فقد رأينا بالأمس القريب (1975 – 1978) مثلا على ابادة الشعب من قبل الحاكم مع ديكتاتور كمبوديا بولبوت حيث قتل ما يقرب من ربع الشعب الكمبودي (حوالي مليوني نسمة) ما قد يشبه، مع بعض التجريد، ما يجري مع حاكم سوريا اليوم.
لفتنا ما حصل في طرابلس من رفع أعلام تركية بالمناسبة مع التلميح إلى نوع من الافتخار بمثل تلك الجرائم وهي ظاهرة لا تنم عن روح لبنانية تميزت بتوالي أنواع الحكام وبقايا الرعايا ما أعطى البلد خبرة عملية لمقولة "لو دامت لغيركم ما وصلت لكم" وهذه المقولة تفسر أحوال الأمم وحكامها في كل زمان ومكان ولا تعني فقط الأشخاص إنما تنطبق على الشعوب والأمم أيضا، ومن هنا يحسن أخذ العبر والتعلم على قبول الآخر والاعتراف له بهامش من الحقوق سوف نتمنى أن تبقى لنا عند تغير الأحوال، لا سمح الله، مهما كانت قوتنا الحالية.
كان سركيس يلبس الطربوش التركي ويتكلم التركية والأرمنية أفضل مما تكلم العربية التي تعلمها بيننا وقد عاش ما تبقى من عمره منتجا ومكافحا من أجل لقمة شريفة لم يلطخها غش أو كذب وعلم أولاده الصنعة وزوجهم وفرح بأحفاده يملؤون البيت وقد مات ودفن في عين إبل هو وزوجته ام يوسف التي كانت نشيطة مثل زوجها تعمل حتى وهي ذاهبة لزيارة ابنتها؛ فكبكوب الصوف والمغزل لم يفارقا يدها وتعلمنا منها كيف تصنع الخيطان وكيف يستغل الوقت في عمل منتج بدون الحاجة إلى التذمر والتشكي والبكاء على الأطلال.
اليوم حيث يصنع الشرق الأوسط الجديد بشكل مسرحي يرينا كل أنواع القتال وكل أشكال التحالفات والتقلبات والأسلحة المستعملة من السيف وقطع الرقاب إلى أحدث التقنيات القتالية بدون حاجة الانسان للمشاركة الفعلية مرورا بالأفكار والعقائد المختلفة والنظريات المتداخلة والطروحات التوسعية الامبراطورية منها والخلافية والتقسيمات المحلية الصغرى وبين هذه وتلك تضيع الأمة والأممية وتتيه العروبة والشعوبية ويختلط الدين والمذهب والرؤية والفعل ولا يبقى حتى المال والنفط أسلحة قادرة على الجزم وفرض النتائج أو وضع الأطر. ولكن إذا عرفت الدول الباقية كيف تلتحق بالركب العالمي وتشارك الانفتاح والتعاون وتتخلص من مركبات الماضي وتطور ذهنية المستقبل عندها قد يكون "الحزم" أول الغيث ولكنها يجب أن تكمل المسيرة فتعترف بشرعة حقوق الانسان أولا ثم تجرم المجرم كائن من كان وتعترف مركبات المنطقة ببعضها وبحق الآخر بالوجود والعيش الكريم ليبدأ تلمس النور في آخر النفق.
فهل يكون اعتراف دول المنطقة وعلى رأسها تركيا بجريمة ابادة الأرمن التي جرت في أول القرن على ايدي الاتراك خطوة بالاتجاه الصحيح على مسيرة الألف ميل في بناء الشرق الأوسط؟
وهل ستفرح عظام سركيس وأمثاله في قبورهم وتغفر لكل الأهل كل الاساءات فتتكاتف الايادي وتتعاون القلوب على البناء بدل التقاتل ويصبح الشرق الأوسط الجديد ورشة اعمار وانتاج تستقطب المهاجرين والمستثمرين ويغيب منها صوت الانفجارات وروائح دخانها؟
تورنتو/كندا
*الكاتب ظابط لبناني متقاعد وخبير في شؤون الإرهاب
0 comments:
إرسال تعليق