أهلا بزعيمة كوريا في ربوع الخليج/ د. عبدالله المدني

تحل رئيسة كوريا الجنوبية السيدة "بارك كون هاي" إبنة باني نهضتها الاقتصادية والصناعية الجنرال الراحل "بارك تشونغ هي" ضيفة على الخليج  هذا الشهر ضمن زيارة رسمية تقودها إلى كل من الكويت والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر. والمفارقة هنا هي تزامن الزيارة مع الذكرى الأربعين لدخول شركات الانشاءات الكورية العملاقة إلى أسواق المنطقة، وكأنما أرادت سيئول أن تذكر الخليجيين بما كان لشركاتها من دور وحضور ومساهمة فعالة في إقامة العديد من الصروح والهياكل التنموية في السنوات الأولى من الطفرة النفطية في سبعينات القرن المنصرم. تلك المساهمة التي لا يزال الكثيرون يشيدون بها بتقدير واعجاب عميقين لما صاحبها من دقة في التنفيذ والتزام بمعايير العمل وضوابطه.
وهذه مناسبة مواتية لكي تجدد وتعزز دول مجلس التعاون علاقاتاتها الثنائية والجماعية مع العملاق الكوري الصاعد. ونشدد هنا على كلمة "عملاق" لأن هذه الدولة الآسيوية ذات الموارد المحدودة والموقع الجغرافي النائي والمستهدفة دوما من النظام الستاليني الجاثم على صدر شقيقتها الشمالية، والتي خاضت حربا مدمرة في بداية الخمسينات فقدت خلالها زهاء مليون مدني و47 ألف جندي و30 بالمائة من مبانيها و40 بالمائة من مصانعها استطاعت أن تقهر المستحيل وتحقق من النهضة والريادة في مختلف الحقول ما عجزت عن تحقيقه دول أفضل حالا لجهة الموقع والموارد والثروات. 
فكوريا الجنوبية ــ كما يعلم الجميع ــ لم تكن شيئا يـُذكر قبل أقل من خمسة عقود، بل أن دولة مثل مصر كانت تتفوق عليها اقتصاديا وصناعيا. لكن الله قدر لها قيادة حكيمة ونزيهة وشغوفة بتحقيق المعجزات ــ وإنْ انتهجت الديكتاتورية والصرامة في الحكم إيمانا منها بضرورتها مرحليا ــ لتؤسس دولة شعارها الانجاز تلو الانجاز وفق خطط واستراتيجيات واضحة، بل أن هذه الدولة توخت لنفسها منذ اليوم الأول نهجا يقوم على الابتعاد عن الأوهام والحروب الدينكيشوتية وبيع الاحلام الوردية وترديد الشعارات الفارغة، كما التزمت بمبدأ الاعتراف بالفشل إذا ما حدث ومحاسبة المقصرين بدلا من التستر عليه وتصدير المشاكل إلى دول الجوار كما تفعل دول وأنظمة كثيرة في منطقة الشرق الأوسط. وكان من نتائج ذلك أنْ صارت اليوم سادس أكبر مصدر في العالم، وواحدة من أهم الاقتصادات تنافسية وديناميكية في العالم ، وواحدة من أقوى الاقتصادات الآسيوية بدليل احتلالها المرتبة الرابعة بين دول آسيا والثالث عشر على مستوى العالم من حيث الناتج القومي الإجمالي الذي وصل في عام 2013 إلى أكثر من 1.3 تريليون دولار، ناهيك عن ارتفاع متوسط دخل الفرد الكوري من 79 دولارا في عام 1960 إلى 20 ألف دولار في عام 2010.

وزيارة الزعيمة الكورية، من ناحية أخرى، مناسبة ليس لاستكشاف فرص التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري التي صارت لازمة لكل قمة يعقدها قادتنا مع نظرائهم الآسيويين، فهذه واضحة ومتنامية وأشــُبعت بحثا في المنتديات والمؤتمرات والمعارض بدليل أن كوريا الجنوبية تعتبر اليوم ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون بعد الصين (تضاعف حجم التبادل التجاري بين الجانبين من 24 بليون دولار في عام 2001 إلى أكثر من 120 بليون دولار في عام 2013) ثم بدليل توسع كوريا الجنوبية في بناء منشآت الطاقة والموانيء والاتصالات والمواصلات في الكويت، ومفاعلات توليد الطاقة النووية والمشاريع الحيوية والنفطية في الامارات، والمدن الذكية (سمارت) في قطر، والمجمعات الصناعية في سلطنة عمان، وتدريب الكوادر الطبية والتقنية في السعودية. إنما نريدها أن تكون فرصة لنتعلم جوهر الخلطة السرية الكورية في النهوض والارتقاء، وفرصة للإقتباس من التجربة الكورية الرائدة في قهر المستحيل، علنا  نتمكن على الأقل من تخفيف سرعة الانحدار الذي تسير  عليها أوضاعنا، خصوصا وأن الله حبانا بالكثير من الأشياء التي تعتبر من العوامل المساعدة للصعود وتفتقر إليها كوريا الجنوبية، 
وفي سياق الحديث عما يفترض بنا ابتداء اقتباسه من الكوريين هو تجربتهم في التعليم بمستوياته المختلفة ومناهجه المتنوعة، وتجربتهم في البحث العلمي ولاسيما تضافر جهود القطاعين العام والخاص لرعايته والإنفاق عليه بسخاء. ذلك أن التعليم والبحث العلمي شكلا دوما المحرك الأول للنهضة في كوريا الجنوبية وغيرها من الدول الآسيوية الصاعدة، خصوصا وأن الثقافة الآسيوية بصفة عامة والثقافة الكورية بصفة خاصة تسبغ على هذين العاملين صفة القدسية، بمعنى أن التهاون فيهما يعري صاحبه من الوطنية ويلبسه ثياب العار والخيانة.
أما الأمر الآخر الذي كان سببا في نهوض كوريا الجنوبية فهو إيلاء الشأن الإقتصادي والتنموي أهمية أكبر بكثير من الشأن السياسي والحقوقي. ففي ظل حكم والد ضيفة الخليج (الرئيس بارك) الذي إستمر من عام 1963 إلى عام 1979 كانت بوصلة الحكومة موجهة نحو تحقيق معدلات نمو عالية وتحويل الاقتصاد الزراعي إلى إقتصاد صناعي، الأمر الذي أثر إيجابا على مستويات المعيشة والدخول الفردية وقطاع التصدير إلى الخارج، وهو ما جعل الرئيس بارك يقول لمن كان يشكك في شرعيته السياسية أنه يستمد شرعيته من النجاحات الإقتصادية التي حققها لبلده ومواطنيه، ولا حاجة له لشرعية سياسية لا تطعم جائعا ولا تكسي عاريا ولا تأوي مشردا ولا تعالج مريضا.

د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: مارس 2015 
البريد الالكتروني: ELMADANI@BATELCO.COM.BH

CONVERSATION

0 comments: