مازلنا حتى اليوم ونحن نعيش بدايات القرن الواحد والعشرين ،نعانى من ظلمة العقول ، لانريد أن نجهد أنفسنا مشقة تفنيد قضايانا العصرية التى تستلزم بالضرورة اعمال العقل لأننا فاقدين لحرية الرأى ، غارقين فى الأتكالية فى أكثر جوانب مشاكلنا الحياتية التى تشكل المطالب الأساسية التى نعيش من أجلها رغم حركة التنوير التى ظهرت فى القرن السابع عشر فى الجنوب ، والتى يردها ( بول هزار ) فى كتابه < أزمة الضمير الأوروبى > 1935 ، ويردها ( كريسوفر هل ) فى كنابه < الأصول الثقافية للثورة الأنجليزية > 1965 الى القرن السادس عشر أما ( بيتر جراى ) فى كتابه < التنوير > فيردها الى العصر اليونانى ، حيث يعتبر أن ارسطو طاليس هو أول الطبيعين الأقدمين لكونه أدخل المنهج العلمى فى الفلسفة ، ومع ذلك فان الرأى الشائع يعتبر أن حركة التنوير بدأت من القرن الثامن عشر .
فاذا صح هذا القول ، بأن حركة التنوير ظهرت منذ ذلك القرن ، فأين نكون نحن من هذه الحركة التنويرية التى يتسيدها العقل والحرية ..؟! والتى قال عنها ( كانط ) فى مقال له بعنوان < ما التنوير > 1784 حيث قال أن التنويرهو هجرة الأنسان من اللارشد ، حيث أن الأنسان هو علة هذه الهجرة ، واللارشد هو عجز الأنسان عن الأفادة من عقله من غير معونة من الآخرين ، وهذا اللارشد من صنع الأنسان عندما لا تكون علته مردودة الى نقص فى الفهم ، وانما الى نقص فى العزيمة والجرأة فى اعمال العقل من غير معونة من الآخرين ( كن جريئا فى اعمال عقلك وبناء على ما سبق يمكننا القول بأن ( ابن رشد ) الفيلسوف العربى ، كان ممهدا لحركة التنوير فى أوروبا ، فى حين انه كان موضع اضطهاد من أمته ، فلقد أمر الخليفة المنصور بنفيه بعد أن قام بجمع كل مؤلفاته وامر بحرقها فى القرن الثانى عشر ، واعتبر فى نظر الخليفة وعلماء المسلمين بأنه مرق عن الدين وبذلك استوجب لعنة الضالين وسماه الخليفة < معطلا وملحدا > وحذر فى أنحاء المشرق العربى من فلسفة ابن رشد حيث كانت فلسفته تدور حول فكرة محورية هى فكرة ( التأويل ) والتأويل عنده يعنى اخراج اللفظ عن دلالته الحقيقية الى دلالته المجازية ، بمعنى أن النص الدينى عنده ينطوى على معنيين ، معنى ظاهرى – وهو المعنى الحرفى ، ومعنى باطنى وهو المعنى المجازى ، وعند تعارض المعنى الظاهرى مع مقتضيات العقل ، يكون عندئذ المعنى الباطنى – وهذا معناه تأويل المعنى الحرفى .
والتأويل أساسا مرفوضا عند أغلب العلماء المسلمين وخاصة عند الأمام أبوحامد الغزالى ، لأنه يعتبر ذلك تحويل الدين الى مجموعة من الخيالات ، وقد اتفق معه فى هذا < علماء الكلام > وهكذا ضاعت فلسفة ابن رشد التى تقوم أساسا على رهن الأسباب بالمسببات حيث أن انكار الأسباب فى رأيه مبطل للمعرفة وللعلم – وبذلك ينتهى دور العقل الذى ينشد الى معرفة الحقيقة وليس المطلق ، وعندما تعرف الغرب على أهمية الفلسفة الرشدية فى القرنيين الثانى والثالث عشر التى مهدت لحركة التنوير فى كل أوروبا ، قاموا على الفور بترجمة كل مؤلفاته الى اللاتينية والعبرية فى ذلك الوقت ــ فهل بقي لنا منذ حركة التنوير وحتى اليوم بعضا مما نادى به ابن رشد ..؟ أو حتى من فلاسفة الغرب الذين أخذوا على عاتقهم الربط بين العقل وبين الوقائع العينية ..!؟
اننى أعتقد بأننا مازلنا نعيش فى عالم الغيبيات ، تحيط بنا الظلمة من كل جانب ، غير تاركين للعقل العنان فى فهم وتفنيد القضايا الحياتية بما هو منطقى بحيث لاتتعارض وأحكام العقائد واعمال العقل مع بعضها البعض ، الأمر الذى أدى الى خمول حركة التنوير فى العالمين العربى والأسلامى مما تسبب فى كبت الأنسان لأبداعاته لكونه فقد حرية الرأى والتعبيرعما يجول بداخله من ابداع ، الحرية والجرأة اللتان تمكناه من اعمال العقل أثناء معالجته لمثل هذه القضايا ، فمن المعروف أن سلطان العقل ينتهى بالضرورة الى التزام العقل بتغيير المجتمع الى ما هو افضل ، ولذلك تقوم الثورات لتحرير المجتمعات من الجهل بالمعرفة ، ودحر الظلام ، والقضاء على الفساد الذى يسيطر الحكام به على شعوبهم حتى لايصلون الى شعلة التنوير .. لأنهم يعلمون جيدا ان المبدعون الحقيقيون هم الذين يحملون هموم اوطانهم على أكتافهم ، هم الذين يحملون الشعلة لينيروا بها الطريق لشعوبهم فى مجتمع تسود فيه المساواة والعدالة الأجتماعية وتقل فيه الفوارق بين الطبقات ، لذلك كان للتنويرين حملته ضد التفاوت الكبيربين الفقراء والأغنياء – واستغلال الأقوياء للضعفاء – والتنوير كذلك هو حركة التاريخ ومساره من الماضى الى الحاضر ، لذلك خرج مفهوم التقدم منه ..!!
يوجد التنوير فى كل مجتمع بواسطة مبدعيه وكتابه وفنانيه وأدباؤه ، ويظهر كذلك فى كل حضارة وليس مقصورا على حضارة بعينيها ، ففى الصين القديمة يمثل ( كونفوشيوس ) اتجاها تنويريا داخل الحضارة الصينية ، فقد أنزل الدين من السماء الى الأرض ، ومن عبادة الآلهة الى التفكير فى أحوال الناس ، وحول الفكر الصينى من المعتقد الى الأخلاق ..!! وكذلك كانت البوذية فى الهند ، عندما نقد ( بوذا ) تعدد الآلهة فى الهندوكية وتحول من الطقوس والشعئرالى حياة الفضيلة القلبية ، وبذلك أصبحت البوذية مرادفة لحياة السلام الداخلى وطريق التسامح الأنسانى –فكلمة ( بوذا ) تعنى المستنير ، ومن هنا تصبح البوذية هى حياة الأستنارة أى التنوير ..!!
أما فى فارس ، فكانت المانوية حركة للتنوير وفى صراع دائم بين الظلام والنور ، والعلم ضد الجهل ، والخير ضد الشر ، كما تصورت الزمان ثلاث لحظات – الماضىوالحاضر والمستقبل ، كانت غايتها ( أى المانوية ) تحريرالفرد واطلاق طاقاته الحبيسة من أسر الظلم والجهل والظلمة ..!! وفى الزرادشتية أيضا حركة تنويرية متشابهة لثنائية المانوية ، فهى تركز على الأفكار والأقوال والأفعال الخيرة مستلهمة هذا الخير من أفعال الأنسان ، فانتقل الدين فى فارس من الطبيعة الى النفس ، ومن الكون الى الأنسان ، ومن الخارج الى الداخل كما هو الحال فى حركة التنوير ..!!
وفى مصر القديمة كانت عبادة ( آمون ) الألاه الواحد ، حركة تنويرية فى دين مصر القديم ، وتحقق الدين فى الحقيقة والعدالة كمثل عليا للشعب – وانبثاق العلوم الطبيعية والرياضية والفنون والآداب من ثنايا الدين ، فالدين حضارة وعمران ...! وكذلك عند اليونان عرف عصر ( بركليس ) بأنه عصر التنوير حيث ازدهرت العلوم والفنون والآداب – فظهرت الفلسفة التى نقلت الفكر من مرحلة الأسطورة الى مرحلة العقل ، وأكد ( أفلاطون ) دور العقل فى المعرفة الحقة بعيدا عن تغيرات الواقع الحسى ..! وفى الغرب رفض ( اسبونوزا ) عقائد اليهود حول شعب الله المختار وأرض الميعاد والميثاق الخاص ، وأوجد ميثاق أبديا قلبيا أخلاقيا لكل فرد يدخله بارادته الحرة ، وطبق قواعد النقد العقلى على الكتب المقدسة وأثبت تحريفها ، كما رفض الحكم الثيوقراطى من أجل قيام حكم ديمقراطى ، مواطنا حرا فى دولة حرة ، ونقد سطوة الكهنة والأحبار على الدولة ووساطتها بين الشعب والحاكم ، وأقام الحكم على نظرية العقد الأجتماعى الذى يكون الحاكم فيها ممثلا للشعب وليس خليفة الله على الأرض ..!
هكذا تمثل التنوير فى الحضارات القديمة ، وفى الفلسفة اليونانية والمسيحية واليهودية ، وكذلك فى الفلسفة الأسلامية داخل التراث الأسلامى حيث قام كنذ البداية على العقل وطلب البرهان ، وعلى حرية الأنسان ومسؤليته ، وعلى المساواة الأجتماعية ، وعلى الشورى كنظام اجتماعى ، وعلى التاريخ كما هو واضح فى قصص الأنبياء --- فالأسلام دين العقل والطبيعة وليس ما بعد الطبيعة ، والمجتمع الأسلامى بلا طبقات وبلا سيطرة الأقلية على الأغلبية ، فالملكية عامة ، والحاكم ممثلا للشعب وليس ممثلا لله ، وتجب له النصيحة من أهل العلم ، وتجب عليه الثورة اذا عصى وحرف القانون --- تلك هى مبادئ الأسلام وهى بعينها مبادئ التنوير ..!
اذن التنوير فى النهاية ، هو الأعتماد على العقل المستقل الذى منه تتولد الأرادة الذاتية – وكان التنوير فى فرنسا أكثر جرأة عنه فى ألمانيا ، فتصدى للأسطورة والخرافة وللحرب وكذلك للتعصب والملكية والأقطاع ، وهكذا قطع التنوير شوطا كبيرا على يد فلاسفته ومفكريه الى ان بدأ بنحسرفى بداية القرن التاسع عشر ، فانقلب التنوير الى هفوة ، فظهرت الحركات الاعقلانية فى القرن العشرين وأصبح الامعقول والعبث هو مطمح الفيلسوف والأديب ، وكما مات الله فى التنوير لصالح الأنسان ، مات الأنسان أيضا للاشيئ وأصبحت الطبيعة مكانا للتلوث والنفايات ، وبدلا من حرية الأنسان وديمقراطية المجتمع ، اقلب الأنسان الى عنصرى ، والمجتمع الى فاشى ونازى ، وبدلا من المساواة والعدالة الأجتماعية – تحول التنوير الى الى ليبرالية ثم الى رأسمالية ثم نظام عالى جديد أكثر استغلالا واستنفاذا للأنسان عبر الشركات عابرة القارات – وهكذا انحسر مفهوم تقدم الوعى الأنسانى ، فانتهى الأمر الى النكوص والأنهيار ، كما هو واضح فى فلسفات الأفول والعود الأبدى ..!
Dr_hamdy@h0tmail.com
0 comments:
إرسال تعليق