ومن تونس الخضراء هلت البشائر/ سعيد ب. علم الدين

إنها بشائر سُنّةُ الحياة، أي ثقافة الحياة المعبَّرُ عنها: 
بالبسمة والانشراح، والفرح والغناء؛ بالفن والإبداع، والنشاط والنجاح؛ بالعمل والبناء، والبذل والعطاء؛ بالحضارة والازدهار، والسلام والاستقرار؛ بالأمن والأمان وتطبيق حقوق الإنسان؛ بالانفتاح والحرية، والديمقراطية والتعددية؛ وتقبل الآخر مهما يكن نهجه وفكره وحزبه ومذهبه ودينه وفلسفته وشكله ولونه وعرقه دون عقد تكفيرية مقيتة، وراثية ذميمة، حاقدة مريضة، دونية بدائية لاإنسانية. 
إنها ثقافة المستقبل وآماله، والربيع وأزهاره، والتي لا يمكن ان تكتمل في قيام الدول الديمقراطية الناجحة، إلا من خلال الدستور وأنواره.
إنها ثقافة النور والصباح، والولادة بانتصار الحياة وربيعها على الموت وخريفه، بكل ما فيها من آلام ودماء وأوجاع.
هذه الثقافة والتي هي عكس ثقافة تقديس الموت، تحاول الخروج جاهدة من محاولات الخنق والشنق والسحق والمحق والاعدام والاجرام والإرهاب دون حساب، وخلق المصائب والويلات والنكسات التاريخية المتكررة عبر جهابذة حركات وأحزاب ودول الاسلام السياسي السني والشيعي المتمادية تطرفا وتشددا وتزمتا وتسلطا وتكبرا وتجبرا، وخبثا وكذبا واحتيالا ودجلا واستبدادا واستعبادا، ورفضا للآخر باسم الدين في كل أنحاء العالم العربي، ودموية ووحشية وبربرية عبر انتحاريي ومجرمي وشبيحة وقتلة الحركات الجهادية السنية والشيعية والعلوية كحزب الله ولواء ابو الفضل العباس وداعش والقاعدة وأنصار بيت  المقدس وغيرها.
وهكذا خرجت تونس من ركام الأمس واطلت علينا أخيرا مرفوعة الرأس بروح الشباب التونسي الهادر بثقافة الحياة، وبشعب ثائر لنيل حرياته وتحقيق طموحاته لا يعرف الملل والاحباط واليأس.
كيف لا وهم ورثة ديمقراطية دولة قرطاجة العظيمة وأحفاد هنيبعل الذي انتصر على روما وقمم جبال الألب. وهم أصاحب أعظم بيت شعر سياسي عربي تحرري على الاطلاق لشاعرهم الفذ ابو القاسم الشابي:
    إذا الشعب يوما أراد الحياة       فـلا بد أن يستجيب القدر
واستجاب القدر لنداء الشعب المجاهد الحر الذي انتصر بعد جهد جهيد على كل قوى التخلف والتكفير والظلام، والتطرف والإرهاب والاغتيال والتفرقة الاجتماعية والمذهبية وسفك الدماء واستغلال الدين ابشع استغلال للوصول الى كرسي الحكم عبر العاطفة الدينية وسوق السذج لصناديق الاقتراع أو حتى على جثث الغلابة والأبرياء. 
انا لا اقصد هنا إسلاميي تونس المعتدلين والوسطيين وقد أكدوا على أنهم قد بلغو سن الرشد الوطني والسياسي بإقرارهم للدستور المدني. ولهم مني كل تحية واحترام على قرارهم الشجاع والعقلاني هذا، وانما أقصد بشكل عام قيادات الاخوان المسلمين ومشايخ الوهابية الفاشلين وملالي ايران الظالمين الذين ما زالو يتخبطون تيها وضلالا وانحلالا اخلاقيا وإفلاسا إنسانيا وفسادا وافسادا في مراهقتهم السياسية الصبيانية وخلطتهم الدينية الماضوية التي لن تبني مجتمعا ناجحا ولن تقيم دولة مدنية عادلة ولن تحقق ديمقراطية سليمة، ولا حرية دستورية يتوق اليها بكرامة كل انسان سيد حر.
وما يرتكبه الإسلام السياسي الوصولي المادي الدنيوي بشقيه السني والشيعي من اجرام بشع بحق الأوطان والإنسان وفي حالة شاذة من الإفلاس الحضاري والإنساني يرثى لها ولا علاقة لها البتة بالأخلاق ومكارمها على العكس تماما فهم أهل الكذب والفتن والنفاق، ولا تليق تصرفاتهم الجنونية القاتلة بإنسان هذا العصر، بل هي عار سيلاحقهم على مدى التاريخ.   
هكذا ومن تونس الخضراء هلت بشائر الفرح والسرور والغبطة والأمل بربيع عربي شرقي انساني حضاري ديمقراطي وبدستور عصري مدني شامل متوازن، دقيق المعاني، وضعي موضوعي منطقي عقلاني صاغه المجتمع المدني والاحزاب السياسية بعد فحص وتمحيص، ودرس وتدقيق ونضال سلمي عنيد، بحرفية وجدية فلا لبس بمفرداته، ولا مواربة بفقراته، ولا ضبابية بمواده، فهو مصدر التشريع فقط لا غير وهو القانون الأساسي للدولة التونسية. 
وعلى كل الدول العربية وقياداتها الواعية ونخبها السياسية ان تحذو حذو هذه التجربة التونسية الرائدة والمعبرة عن روح العصر والمستقبل وليس العودة بالدولة والمجتمع الى الماضي الانحداري والتطرف الديني الانتحاري والخلافات الدينية والمذهبية والفقهية والتي لا تنتهي إلا بادعاء كل منهم ملك الحقيقة، مما سيؤدي حتما الى تضارب حقائق اصحاب العقول اليابسة المتحجرة فينتشر التحريض على الآخر والعداء والقتل والتفخيخ وسفك الدماء كما حدث في التاريخ وكما يحدث حاليا في العالم  العربي عبر صراع سني شيعي اشعله ملالي ايران عبر حرسهم الرجعي وأدواتهم الرخيصة من خونة الأوطان للسيطرة على منطقتنا استبدادا باسم الدين وتهجير شبابنا وتدمير مجتمعاتنا وخراب بلداننا وقمع حرياتنا وضرب أي تحول ديمقراطي ايجابي لمصلحة شعوبنا، واضاعة مستقبلنا في تجارب سقيمة عقيمة ستنتهي بالفشل الذريع.
وبصراحة العبارة : الدولة الدينية والديمقراطية لا يلتقيان. 
كيف لا والدين شمولي أحادي مهيمن استبدادي مقدس مفروض مغلق منغلق محدود مبني على الآيات والحديث وتراكم التراث لا نقاش فيه، 
والديمقراطية على العكس تماما علمانية مدنية دستورية منفتحة دون انغلاق ومستوعبة لكل الأديان والمذاهب والفلسفات والأفكار تبنى على التعددية والحرية والنقاش وتقبل الآخر دون حدود.     
والحرية الحقيقية دون سقف والغير منقوصة قولا وممارسة وتعبيرا غير موجودة في الدولة الدينية، وهي الأساس لكل تحول ديمقراطي سليم. 
وقد أقر الدستور التونسي الجديد لكل التونسيين لا فرق بين المرأة والرجل كل الحريات والحقوق ومن مختلف الأجيال، وضمن حمايتها بإقرار المراقبة الدستورية على القوانين. مقرا بحقوق المواطنين جميعا وحرياتهم الأساسية وضمانها من خلال الفصل والتوازن بين السلطات، والحفاظ على ما حققته المرأة من حقوق متقدمة جدا على الصعيد العربي والاسلامي.
فألف ألف تحية لروح محمد البوعزيزي التي ألهبت المشاعر وحركت الضمائر وأشعلت المنطقة العربية بربيع ديمقراطي بالمستقبل زاخر والى مجد الأمة وكرامة الإنسان وحرية المجتمع وصيانة الحقوق سائر.
وألف ألف تحية إلى الشعب التونسي الثائر والذي أسس لدستور عصري ديمقراطي اجتماعي متوازن تابع من خلاله مسيرة تونس الحضارية الحديثة على يد ابنها العظيم الحبيب بورقيبه. 
وأهم فقرة جاءت في الدستور وفيها الرد الشافي على محاولات الاخوان وغيرهم في خنق الدساتير هي: أن "الدولة راعية للدين كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. وتلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على العنف والتصدي لها".
وعلى النقيض تماما نجد جمهورية ملالي ايران. 
فكما أن الدولة التونسية المدنية الديمقراطية راعية للدين، نجد أن الدولة  الدينية الإيرانية الشمولية راعية للإرهاب. 
والعلمانية السليمة هي في حياد المسجد عن تدخله في العمل السياسي أي الفصل بين الدولة والدين. 
فالمسجد لرجل الدين، والبرلمان لرجل السياسة. 
والخلط بينهما حسب التجارب التاريخية والحديثة يؤدي حتما الى الاستبداد والدكتاتورية والفساد ويشوه الدين ويفسد السياسة. 
فالدولة حسب الدستور التونسي هي دولة راعية للدين تحكمها رجال السياسة من خلال عقد اجتماعي لحكم المجتمع عبر دستور وضعي توافقي معبر عن روح العصر، وليست دولة دينية ماضوية متخلفة تفرض على المجتمع وتحكمها العمائم والمشايخ بالفتاوي من خلال ما يسمى الشريعة والتي أثبتت فشلها الذريع من السودان الى ايران ومن افغانستان الى نيجيريا وباكستان.  
وحرية المعتقد التي أكد عليها الدستور هي تطور عصري في الفكر الإنساني الحديث. حيث أنك حر في التعبير عن رأيك وفي اتباع منهجك وفلسفتك وحزبك ودينك ومذهبك ولكنك لست حرا في أن تفرضه على الآخرين. وهل تسمح أنت للآخرين أن يفرضوا عليك دينهم وشريعتهم وأفكارهم؟ 
أليست هنا حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ومنها حرية المعتقد، أنسب لك ولي ولها وللجميع؟ 
ملالي ايران وكل اصحاب الوجوه الكئيبة العابسة المشبعة بثقافة الموت والحروب والفتن والتآمر أصيبوا بخيبة أمل كبرى بسبب هذا التطور الإيجابي التاريخي للربيع الديمقراطي العربي في تونس ومصر ولاحقا سيعم منطقتنا من المحيط الى الخليج العربي.
وسينتصر الربيع العربي أي ثقافة الحياة، بطموحات وآمال الشباب على فلول الخريف الإيراني أي ثقافة الموت ونشر الفتن والحروب وتصدير الإرهاب.  
  برلين 14.02.03

CONVERSATION

0 comments: