استحقاقات فلسطينية للرفض الأميركي لخطة عباس/ نقولا ناصر

(المواجهه الأميركية – الفلسطينية حتمية، وقد تأخرت كثيرا، وحاولت القيادات الفلسطينية المقاومة والمفاوضة على حد سواء تجنبها دائمأ، فهي ليست خيارا فلسطينيا، لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبدو مصرة على فرضها على الشعب الفلسطيني)

يؤكد رد الفعل الرسمي الأميركي الناقد لخطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة أمس الجمعة أن العلاقات الثنائية سوف تشهد مواجهة فلسطينية أميركية سياسية ودبلوماسية متصاعدة خلال الفترة المقبلة.

فالولايات المتحدة التي عارضت خطة عباس لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي خلال سقف زمني محدد لم تكتف بتحذيره من عرض مشروع مثل هذا القرار على مجلس الأمن بل إنها أصدرت بيانا رسميا تدين فيه "لغته" التي عبرت رفض شعبه لاستمرار الاحتلال وجرائم الحرب المتواصلة التي يرتكبها في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

فقد أصدرت وزارة الخارجية الأميركية في اليوم ذاته بيانا "رفضت" فيه الخطاب وأعربت عن "خيبة أمل عميقة" منه ووصفته بأنه تضمن "توصيفات عدائية" وكان "استفزازيا" ويقود إلى "نتائج عكسية" و"يقوض الجهود لخلق مناخ ايجابي يعيد الثقة بين الأطراف".

ومن الواضح أن الرئيس عباس قد انحنى أمام عاصفة الرفض الأميركي لخطته، فقد اكتفى ب"عرض" خطته على الجمعية العامة للأمم المتحدة لكنه لم يطلب التصويت عليها لاستصدار قرار أممي يستقوي به عند عرضها على مجلس الأمن الدولي، وطالب بسقف زمني لإنهاء الاحتلال لكنه أسقط مدة الثلاث سنوات التي سبق له أن أعلنها كسقف زمني لإنهائه.

ولا توجد أي معارضة فلسطينية جادة لخطة عباس لتدويل البحث عن حل سياسي للنضال الوطني من أجل إنهاء احتلال القدس والضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 واستبدال الرعاية الأميركية برعاية الأمم المتحدة للتوصل إلى تسوية سياسية متفاوض عليها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

لا بل يوجد شبه إجماع على تأييدها يتراوح بين الحماس لها في أوساط ما يسمى "معسكر السلام" الفلسطيني وبين قبولها على مضض من المقاومة وفصائلها التي تمنح عباس فرصة دخول الاختبار الأخير لاستراتيجيته من دون أن تضع العصي في عجلة حراكه السياسي.

لكن هذه الخطة تعني أن عباس قد نفض يديه يأسا من الرعاية الأميركية وتعني دخوله في مواجهة سياسية مع الولايات المتحدة.

ومن الواضح أن عباس لن ينجح في تحييدها بالانحناء أمام عاصة رفضها لخطته، ولا بطلب الموافقة الأميركية عليها، ولا بالتعلق بوهم أن لا تستخدم واشنطن حقها في النقض "الفيتو" ضدها عندما يعرضها على مجلس الأمن الدولي، كما لن ينجح في استرضاء الولايات المتحدة عندما يقرر تأجيل طلب الانضمام إلى المنظمات الدولية ومواثيقها ومعاهداتها، مثل محكمة الجنيات الدولية ومحكمة العدل الدولي.

فكل الدلائل تشير إلى الرفض الأميركي لخطته وإلى الاستعداد الأميركي لإفشالها والإصرار على التوصل إلى حل لم يتحقق طوال ما يزيد على عقدين من الزمن بالتفاوض الثنائي مع دولة الاحتلال وباحتكار الولايات المتحدة لرعاية عملية التفاوض هذه.

ففي يوم الثلاثاء الماضي بعث 88 عضوا في مجلس الشيوخ في الكونغرس الأميركي رسالة حثوا فيها وزير الخارجية جون كيري على "منع التطورات السلبية التي يمكنها أن تحبط أية آفاق لاستئناف محادثات السلام بين إسرائيل وبين الفلسطينيين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية"، وقد امتنع السناتور راند بول عن توقيع هذه الرسالة لأنه يريد "قطع كل المعونات عن السلطة الفلسطينية" حتى تلتزم السلطة بكل شروط دولة الاحتلال، كما جاء في توضيح منه بالبريد الالكتروني للواشنطن بوست في اليوم ذاته.

لكن "الشيوخ" الأميركيين كانوا حريصين على مواصلة العمل بسياسة "العصا والجزرة" الأميركية المعهودة ليحاولوا رشوة الرئيس عباس بحث كيري على "تمكين السلطة الفلسطينية من التحرك قدما لتصبح السلطة الفلسطينية الحاكمة في غزة" بشرط  "منع حماس من إعادة بناء قدراتها العسكرية".

غير أن الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة تقتضي رفضا باتا لأي رشوة أميركية يكون ثمنها رأس المقاومة الفلسطينية، ففي أي مواجهة كهذه يفتقد فيها عباس أي دعم عربي، في ضوء الإجماع العربي على التحالف أو على عدم معارضة الولايات المتحدة في الحرب التي اعلنتها على "داعش"، تظل المقاومة والوحدة الوطنية الفلسطينية هي القاعدة الوحيدة التي يستطيع الرئيس عباس الاستناد إليها في أي مواجهة كهذه.

وفي هذا السياق يصبح التأييد المعلن لجامعة الدول العربية لخطة عباس غير ذي صدقية ولا يمكن الركون إليه في المواجهة مع الولايات المتحدة، لا بل من المتوقع إذا ما وقعت هذه المواجهة أن ينقلب هذا التأييد إلى ضده ليتحول إلى أداة أميركية للضغط على الرئاسة الفلسطينية كي ترضخ للشروط الأميركية.

وهذه المواجهة شهدت فصولا ثانوية لها سابقا، خصوصا منذ أفشلت الولايات المتحدة في سنة 2011 المحاولة الفلسطينية للحصول على اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولة عضوا فيها، قبل أن تفشل في السنة التالية في منع الاعتراف الأممي بها دولة مراقبة غير عضو فيها، لكن الذاكرة الوطنية الفلسطينية لا تنسى أن الولايات المتحدة هي التي أحبطت انجازات فلسطينية مثل توصية محكمة العدل الدولية بشأن جدار الضم والتوسع في الضفة الغربية، و"تقرير غولدستون"، ومنعت قبل ذلك تنفيذ العشرات من قرارات الأمم المتحدة لصالح الحق الفلسطيني، وحالت دون المجتمع الدولي ورعاية "تسوية سلمية" عادلة تنهي الاحتكار الأميركي لما سمي زورا وبهتانا "عملية سلام" لم تكن الولايات المتحدة فيها وسيطا أو راعيا نزيها أبدا.

لكن هذه المواجهه الأميركية – الفلسطينية حتمية، وقد تأخرت كثيرا، وحاولت القيادات الفلسطينية المقاومة والمفاوضة على حد سواء تجنبها دائمأ، فهي ليست خيارا فلسطينيا، لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبدو مصرة على فرضها على الشعب الفلسطيني.

وإذا كان الرئيس عباس، الذي راهن لعقود من الزمن على حسن النوايا الأميركية، قد وصل في نهاية المطاف إلى قناعة بعدم جدوى الاستمرار في رهاناته على الولايات المتحدة وقرر مواجهتها سياسيا واستبدال رعايتها لاستراتيجيته التفاوضية برعاية أممية، فإنه سوف يحظى بقراره على دعم الإجماع الفلسطيني، أما إذا قرر التراجع عنه فإنه سيدخل أهم اختبار شعبي يدخله في حياته السياسية لصدقية خياراته الاستراتيجية التي لم تحظ يوما بأي إجماع وطني أو شعبي.

وتقتضي هذه المواجهة كذلك الاستعجال في استكمال آليات تنفيذ اتفاق المصالحة، والاستجابة السريعة للإجماع الشعبي والفصائلي على الإسراع في طلب الانضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية، وتقتضي قبل ذلك وغيره حماية المقاومة بكل أشكالها وتطويرها كما ونوعا وتوسيع نطاقها لتشمل كل الوطن وكل أهله أينما تواجدوا، وتقتضي أيضا عدم السماح باغتيال الشهيد عز الدين القسام مرتين !

لكن حتى لو انصاعت الولايات المتحدة لإرادة المجتمع الدولي المؤيدة للحق الفلسطيني وامتنعت عن استخدام نفوذها ضد خطة عباس وعن استخدام حقها في النقض ضدها في مجلس الأمن الدولي، وهو ما ليس متوقعا منها كما تشير كل الدلائل التاريخية والحالية، فإن تبني الأمم المتحدة لخطته سوف يظل انتصارا ورقيا يضاف إلى ركام من الانجازات الورقية التي ما زالت بانتظار قوة وطنية تترجمها واقعا على الأرض المحتلة.

وإذا لم تستجب الرئاسة الفلسطينية لهذه الاستحقاقات التي تحظى بإجماع شعبي فإنها بالتأكيد سوف تظل تغرد خارج السرب الوطني.

فهذه الاستحقاقات، في معزل عن أي مواجهة مع الولايات المتحدة، تظل استحقاقات وطنية يجب تعزيزها وتعميقها وتطويرها لأنها الشرط الوطني المسبق الذي لا غنى عنه إذا ما أراد الشعب الفلسطيني تحرير وطنه وتحويل ما حققه من إنجازات "ورقية" دبلوماسية إلى واقع على الأرض.

وللشعب الفلسطيني في عدوه عبرة، فالحركة الوطنية الفلسطينية تملك من قرارات الشرعية الدولية، كما ونوعا، ما لم تملكه أبدا الحركة الصهيونية في تاريخها، لكن هذه الحركة التي لم تملك من الشرعية الدولية سوى قرار واحد يتيم هو قرار تقسيم فلسطين غير الملزم رقم 181 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 وقد تمكنت من ترجمته إلى واقع على الأرض فقط بتطوير قوتها العسكرية التي فرضت وجود دولة الاحتلال بالقوة القاهرة، وهي القوة التي منع الفلسطينيون في السابق ويمنعون اليوم من امتلاكها.

ورحم الله الزعيم العربي المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يردد دائما أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فتوالي الأيام وأحداثها قد أثبت أنه كان على حق وأن المسار العربي والفلسطيني الذي سار في اتجاه معاكس بعد رحيله كان خطأ، بل خطيئة.

* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com

CONVERSATION

0 comments: