بين نسخ تجربة الغير بعالم الصحافة و بين الإبداع/ فراس الور
كنت في يوم من الايام أطالع ما ينشر حول مهرجان مهم في الأردن منذ بضعة سنين، و كنت اراقب ما تكتبه أقلام النقاد و الصحفيين عن فقارته الغنية و فعالياته المتنوعة حيث كان الحدث الابرز في ليالي صيف عمان الغنية دائما بالفعاليات الترفيهية، فكان مهرجان جرش للثقافة و الفنون قبل أن يتم إلغائه لفترة من الوقت ثم إعادته لنا مؤخرا من أكثر المهرجانات شهرة في الوطن العربي و استقطاب للفنانين بتاريخ الأردن على الأطلاق، و كم أسعدني بدء أول يوم من فعاليته حينها حيث هل ضيوف الأردن الكرام للمشاركة بحفلاته التي كانت حينها ستجري وسط سلام كبير قبل أحداث الربيع العربي المؤسفة حيث تيسر لفنانين من لبنان و سوريا مصر القدوم لبلادنا المضيافة الحبيبة، و مع كل أسف هنا كانت الصدمة الكبرى لي،
بعد بدء فعاليته كانت الصحافة تكتب بروح طيبة حول النجاح الكبير الذي كان يحصده هذا المهرجان الراقي، و كانت بعض الأقلام تكتب على الإنترنت عن فعاليات قادمة كنوع من الدعاية له ايضا...و لكنني لاحظت تكرار بعض النصوص حرفيا بالعديد من الصحف الإلكترونية و كأنها آلة نسخ تكرر ما يتردد على لسان بعض الكتاب...فلاحظت غياب مفهوم التجربة الذاتية عند العديد من الصحافيين الذين يكتبون عن هذا المهرجان مع كل أسف، فهل يُعْقَلْ أن تتحول صحفنا الإلكترونية الى آلة نسخ بكل امكانياتها و تنسخ مقالة واحدة يتم تداولها بين الأشقاء العاملين بهذا المجال؟ هذه ليست سرقة بصورة مباشرة بل اسمها تعبئة صفحات إلكترونية بدون وعي و الخوض بتجربة ذاتية حتى أُقَيِمْ الأمور و أكتب كصحفي عن الحفل من خلال حضوري الشخصي و أختبار بصورة ذاتية أجواء الحفل، فهذه الخطوة ستساعدني كأديب بشحن حواسي و إثراء خبرتي عن الحفل لأكتب على سبيل المثال لا الحصر عن الحضور و كيف تفاعل مع الفنان الذي يحي الحفل، كيف كان مستواه الغنائي؟ حل نجح هذا الحفل أم لا؟ ماذا كان شعوري كمستمع و كناقد فني و أنا استمع الى الحفل الغنائي؟ ما كانت اراء بعض الحضور عن الحفل، الخبرة الذاتي ستشحن قلم الأديب بأرقى العبارات ليعبر عن رأيه بالحفل الذي يحضره فغالباً عندما تتوفر هذه العناصر بذهن الأديب سيكتب بإبداع عن الحفل أو الأمسية الذي شاهدها و ستكون كلمته موزونة أكثر و ستتزين مقالته بالبلاغة اللغوية المطلوبة...بل سيجد أن قلمه سينجح بصياغة مقال صحفي يتسم بالمصداقية التي غالبا ما سيشعر بها القارئ فورا و هو يطالع اسطر المقال...و هذه العناصر ستبني للأديب الإحترام و التقدير عند الجمهور الذي سيعتاد على مطالعة كل جديد له،
أذكر هنا خبرة مررت بها حينما كتبت مقالة حول ظاهرة انتشار سيارات التكسي في العاصمة الأردنية عمان، فطلبت مني رئيسة تحرير المجلة التي كنت أنوي نشر المقال معها أن أكتب هذه المقالة و أن أضع مقارنة بين هذه الخدمة بالأردن و خدمة التكسي بولاية نيو يورك في أمريكا، شعرت حينها بأنني أمام مسؤلية كبيرة و كم وجب علي أن أتمتع بأخلاقيات مهنية عالية حيث أن مقالتي سيتم نشرها بأكبر مجلة إنجليزية بالاردن و يعني هذا أن شريحة واسعة جدا من المجتمع بكل طبقاته المثقفة ستتطلع عليها، فأذكر بأنني زرت محامية صديقة لي و طلبت منها ديوان قانون السير الأردني كي يصبح لي خلفية قانونية و أنا أكتب عن هذه الظاهرة التي اجتاحت عمان بصورة غير طبيعية حينها، و قد طالعت هذا الديوان بالكامل، و كم أمضيت ايام طويلة زرت فيها المسؤلين عن هذا القطاع لأخذ تصريحاتهم و تطلاعتهم لحل هذا الموضوع، و قمت بسؤال العديد من سائقي التكسي عن المشاكل التي تواجههم بحياتهم المهنية، و من ثم أمضيت ساعات طويلة اطالع الموقع على الإنترنت لسيارات الأجرة بنيو يورك فكلمتي كانت يجب أن تتمتع بالمصداقية، و بحمد الله نشرت المقالة لي بعام 2004 في مجلة Living Well الرائدة بالأردن، فالأديب الصادق ابن المهنة الأصيلة سيشرع بعملية البحث العلمية و المنهجية كثيرا و مطالعة المراجع الأكاديمية إن لزم الأمر قبل أن يكتب كلمة بمقاله أو في الصحيفة الذي يكتب بها، فمهنة الكتابة تتمحور بالدرجة الأولى عن قدرة الكاتب على تقديم رأيه و من ثم أن تكون المعلومات التي يقدمها صحيحة و أن يتمتع مقالة بالمصداقية المطلوبة،
نحن في نهاية المطاف نريد كلمة حسناء تساهم بحركة إعلامية قوية و متزنة تنبع من أقلام مبدعة صادقة و ليست منافقة تسعى لإتمام واجباتها فقط بصورة عشوائية، فالحركة الإعلامية بأي بلد هي جزء من النشاط الثقافي الذي يجب أن تُراعَى به أخلاقيات المهنة على أكمل وجه، و يجب أن تكون الأقلام المهنية المشحونة بالحب للمهنة و بالإخلاص المهني حاضرة كي تعطي بسخاء و ليست لنسخ تجربة الغير بصورة عمياء او لتعبئة الصفحات الإكترونية بصورة عبثية، فالكاتب المبدع سينجح بلفت الأنظار له لأنه يحترم ذكاء القارئ من خلال ما يكتب لذلك هو ناجح بالوصول بصورة مبدعة الى القارئ ليخاطبه بما يريد، أتمنى أن تصحي هذه الكلمات الضمير الغائب عند بعض الإخوة...لا غير،