عابر يواريه الضباب/ شوقي مسلماني

1
إشارة واضحة صريحة مباشرة لا يرقى إليها الشكّ
حين ترى الجرذانَ متكاثرةً في الطبقات العليا من مدينة
آنئذ، لا حيلة بعدُ، وهم كأنّهم بعدُ أبداً لم ولن يتّعظوا.

أقلّه أن تتحرّى نتاج عقله، هل هو دائماً على حقّ؟
ولا شيء بذاته، الكلُّ اتّصالٌ ـ إفتراقٌ
سلسلةٌ تعود إلى قبضة لا شيء
والإنسان، والقرد، والغوريللا، والأسد، والفهد
والنمر، والباشق، والصقر، والنسر، والذئب
والكلب، والثعلب، والأشجار، والورود
والزهور، والحشرات، كلّ شيءٍ
يا صديقي عليك ما دمتَ وحدك
أن تتّكئ على الضباب
شجاعاً.

يتقدّم إلى الختام باندفاع سيل عرم أو تسونامي لا يُصدّ
يا للغرابة والعجب، ولديه وقت أيضاً، وهو في الطريق، ليدمّر هنا ويُشعل حرائق هناك، لديه الوقت أن يقتل طعناً أو صلباً أو شنقاً أو صعقاً
طبعاً يستهين (المختلّ يشمّ المختلّ من مسافة ميل)
ويمتلك الآلة والرقاب: الإمتلاك مقبض، والآلة سيف، والرقاب هي الرقاب
ويلفّ ويدور كأنّما إلى أبد أبد الأبد، يوميّاً ملموساً وبالصوت والصورة
الواقع حقّاً هو أغرب من الخيال
يكذب، يسرق، يخون، يستعلي، يستكبر، يستحمق، يستخرق
(الإدانة والإدانة! هذا صحيح، لكنّها إنجاز)
وينطفئ مترمّداً.

والظنّ هو ذاته يفترق
يحسن أو يسوء، أو يحسن ويسوء
بحسب درجة الحرارة الداخليّة
كان يتذكّر، ويحتمل، إنّما أين هي هذه المسافات؟
بلى، بلى، الصخرة والإنسان
يا صديقي: الحقيقة ما أسهل أن نراها في الشارع، في البيت
كلّما أفتكر أنّي خرافة
هل يعقل أن يحضر الجميع ولا تحضر هذه الذاكرة المثقوبة بقلبها؟
أولئك الشجعان الذين فيما الباخرة العظيمة تيتانيك تغرق
وقفوا في حلقة وعزفوا الموسيقى
تلك المرأة العجوز التي ركعت واحتضنت جذع شجرة زيتون
ووضعتْ خدّها على الجذع
وامتلأت عيناها بالدموع الصامتة.

أنين ثكلى، قعقعة سيوف
فحيح حيّة، سجير نار
وقيل: "لم يقتن الكلب لذاته
إنّما لنباحه"
وقيل: "إذا سمعتم صياح الديك
فاستبشروا ملْكاً طيّباً
وإذا سمعتم نهيق حمار
فتعوّذوا بالله الرحمان
لقد رأى الحمار شيطاناً"
وقيل إنّ شخصاً قال:
"قرارات صائبة، في الماضي، اتّخذتُها
وقرارات صائبة، في المستقبل، اتّخذتُها"
وقيل عن حقّ إنّه "لا يعرف بتصريف الأفعال
ولذلك للماضي وللمستقبل فعل واحد"
وإذا الليل انتصف "جلس تيمورلنك على عرشه شبيه العتل أو البرميل، وبطانته جالسون حوله، أبصارهم إليه شاخصة، وآذانهم لصوته مرهفة، وألسنتهم تدور بتسابيح الحمد بذاته، والثناء على خصاله العظيمة"
ثمّ وهم في الحديث "سأل واحدٌ زميله أن يفيده عن مذهبه، فوقف، وقال بكلّ الذلّ والخنوع، منحنياً، ويده على قلبه، ومشيراً إلى تيمورلنك: إنّ تيمورلنك هو مذهبي ومعتقدي".
وقيل: "نُزعت الحميّة منهم، ووهنتْ فيهم همّتهم، وانطفأت آخر شعلة غيرتهم، وأمسوا بلا وفاق ولا اتّفاق".
وأخذ "كلّ واحد منهم يكيل في وصف تيمورلنك، والثناء عليه، حتى رفعوه إلى مرتبة المخلوق العجيب".
العضّ والعضّ، فهو يقوّي الأسنان
وأبداً "السباع لا تشاور الخرفان".

عقول النخبة هي منتهى أفق الجماعة
وأيضاً من هذه النخبة من له باطن تماماً يختلف عن الظاهر
خذْ حذرك وخذْ حذرك
واحد قراقوز، له ملابس مختلفة، يقول إنّه يعرف فقد سمع
ولو عقل لاختجل وتوارى عن الأنظار
لئلاّ تحاصره عيون ماكرة هازئة
مثلاً قطيعٌ، أيضاً يعرف لأنّه سمع
هذا القطيع ذاته لا يدري إلى أين يأخذه الراعي
يأخذه إلى المرعى الخصيب
أم يأخذه إلى المسلخ الرهيب؟
أو خذْ مثلاً ساديّاً وصل داعساً على الرقاب إلى رأس السلطة
آه يا صديقي، خذْ حذرك وخذْ حذرك.

ونداءٌ في البريّة
وصراخ مَن فقد عقله لمرأى مغدور به
هامداً، عائماً، في بحر دمه
أو ذهابٌ وإياب، ولا ذهابٌ ولا إياب
إنّما دوران حول الذات
دوران، ودوران
وليلٌ موحش ينقضّ
على مَن كلّما ينقطع
حتى وهو في قلبه
وكلّما يتّصل بألمه وأسفه
وهناك مَن هو مجنيّ عليه
ولا عقل ولا من يعقلون
وهناك مَن اعتقادُه أنّه من الفرقة الوحيدة الناجية
يكفي أن يسمع، ولا للنظر ولا للمس
ولا للشمّ ولا للعقل ولا لشيء
يكفي أن يسمع
قلْ يا رجل: عيالٌ
صغارٌ ـ كبار.

ويركض، ويركض
لكي يصل إلى مكان هو فيه!

2
كانت يده تهوي بسرعة متزايدة
عندما يتغيّر موقع العينين، يتغيّر شكل الفكّين
وفي زاوية يقضي الوقت وهو ينتّف بالوقت
وفي الشارع يمشي ليمشي
وفي البحر يتّسع للأزرق
وفي الحريق أخيراً رماد
يا ذاتي الحرون قليلٌ إدراكي بما أعرف
مع أنّي لا يجدر بي أن أسأل عن الهدف أو الغاية
ومع أنّي يجب أن أسأل
المسألة يا ذاتي ماكرة
والعاقل هو الذي لا يركن لشيء
أو لا يطمئن أبداً.

ولمّا لا يشاء أن يمشي، تراه يمشي بمشيئات
هي فيه، وليست معه
أي يمشي بقوّة دفع يصيبها الجنون
بقانون طبيعي، سيّد، مستبدّ
يمشي إلى أوّل لغم أرضي، وإلى ثان وثالث
وينفجر الواحد بعد الآخر، كأنّ الطريق جبهات متقاتلة
وبيت الطاعة مشرّع على الجريمة النكراء
وهناك من عقله يقرض، كأنّه فأر، بعقله ذاته
وهناك النائم المستريح على حرير الوهم
وهناك من يقرض فيه فيروس المذهبيّة
وما كان له أن يغادر المصحّ العقلي
ما كان له أن ينخر في جسم الطريق
مِن دون محاولة جادّة لردعه
آه، لو لم تكن الإدارة وزبانيتها الدكاترة ذاتهم
المهووسون برؤوس الأموال
والإستدلال يكون بوقائع حيّة على الأرض لا وقائع مأفونة
هل تدري أنّها حقّاً معادلةُ ثنائيٍّ مستحيل
هي "العادل المستبدّ"؟

الحوار، كلّ حوار، له سقف، قلْ: زمني، مثلاً
ومنهم من يقول إن المعضلة حلّها ممكن بالعقل
ومنهم من يقول لا حلّ مطلقاً بنقصان مفضوح
ومنهم من يقول باحتساب وقت آخر، وطريق آخر.

وأنا ذاتي مشيتُ إليَّ، وسألتُني، وجهاً لوجه: ماذا تقول بوجهي؟
قال: هناك فرق، إحرصْ عندما تكون معارضاً ألاّ تكون متّهماً بشبهة
مثلاً! إحرصْ ألاّ تبدو منافقاً، سخيفاً، إنعزاليّاً
أنا ذاتي، أيضاً، مشيتُ إليَّ، وكنتُ أتقدّمني مرّةً، وأَلتفت ولا أرى وجوداً لي
وكنت أتأخّر عنّي، وأقول منهزماً كثيراً: فات الأوان!

غريقان: واحد يصرخ بأنّه يريد أن يحتلّ العالم
والآخر يزجره ويوبّخه ويتّهمه بالنازيّة
والناس عند الشاطئ يمرحون ويسبحون
ولا من يغرق، ولا من يغرقون.

هو الرزّاق، لكنّه لا يحفّز الجائع على الموت جوعاً
إلاّ إذا لديك معطيات أخرى في الإذلال والموت اللانهائي.

علينا إمعان النظر في كيف أنّ هذا المجرَّح بكلّ أنحائه
هو بالأصل عين البنى الفوقيّة المتجسِّدة به
وهو عين نتاج عصابة منتحلة صفة الدولة.

يتساءلون في كلّ مجال، برّاً، بحراً وجوّاً:
الحكم، مؤسّسات الحكم، الإقتصاد، الأمن، الله ذاته
يتساءلون عن الكلّ وبالكلّ، إلاّ الأفيال الطائرة والحيتان
المنقضّة رفساً، وعضّاً، ودعساً، ومعساً
بجريمة موصوفة لا يحجبها حاجب
باعتبارها من الجرائم الأكثر نكراً
في التاريخ المعاصر.

والبعض لن يعقل أنّ الريح
وهي تعبر تدفع السفينة الشراعيّة كلّها
فيما الراية الكريمة تخفق وترفرف
ولا شيء واحداً لواحد فرد
ولا شيء من واحد فرد
ولا شيء بواحد فرد
المثقّف منارة
أو هذا ما يأمله منه
الراسخون
بالطيبة.

وعابر
يواريه الضباب.

CONVERSATION

0 comments: