العازر العربي بْرومِثيوساً نهض !/ حمّودان عبدالواحد

الشعوبْ
في دنيا العربْ
جثث !
منذ زمانْ
جثثْ !
في أمانْ
في سكونْ
كصورة تمثالْ
في نسيانْ
لفّه الصمتْ
ضمّه الموتْ
في زاوية مكانْ ... !


ولم أكن أدري ،
في زهرة حياتي ،
محسوب أنا من الجثثْ !
كنت حمَلا وديعاً جرّه الظمأ
بعد يوم طويل من المرح
إلى مجرى ماء تحرسه الذئاب !
كنت برعمة حالمة
تريد أن تطير !
ياليت أزرقي البريء كان يعود !
ياليت أجنحتي كانت فراشة تدوم !
فلا أنا شربتُ
وما تركوني أطير!
أوقفوني ،
قيّدوني ،
اِغتصبوني ،
مزّقوني قطعاَ...
بعثروني في الشوارع والدروبْ ،
وزّعوني على القارات والمحيطات ،
وكنتُ لقمة صائغة
للأسواق والجشع والحروبْ ،
للأفاعي والتماسيح والقروشْ... !


ياليت العرب
بعد ما رموا جثتي
في الطرقات ،
كانوا حنّوا عليّ ،
كانوا جمعوا أشلائي ،
كانوا هزّوني ،
وشيّعوني في جنازة !


وقاحة العرب
تركتني جثة ممزّقة...
وعارية ، عارية !
تمنّوْا لو عفنتُ وفاقت دُمّلي !
تمنوا لو تحوّلت أنا الجثة
إلى مفطرة ،
إلى مزبلة ،
لو أعلن الذبابُ مهاجمتي ،
ومصّ الدودُ ما بقي من دمي...
لو فرستني الضباع الجياع ...
لِمَ عليّ
حمَلوا
وكانت حُمّاهم ضاريّة ؟
أنا لم أكن في يوم من الضباع !
أنا كنت دائما في صفّ الجياع !


********

كم عانيتُ
كِدْت أجنّ
أوْشك قلبي
أنْ يتمزّق
يتخلى عنّي
حين رأيت من وراء ستارْ
رجلا أبيضَا
يتآمر مع أقاربي
على تغييب كل الجثث العربية...
سمعتهم يهمسون :
" سنقول لكل من سأل
عن مفقود أو غائب من الجثث
لا داعي للوقوف
لاعلم لنا بالموضوع " !

جثث ، جثث
هم العرب !
دُمى راقصة
لعب رامشة
محشوّة هياكلها
بالغاز والغازات
باالبتردولارات
صُنِعت ليتسلى
بها الأقوياءُ من الغزاة
من الحاكمين عند العجم !

********


شيء محزن وسخيف أن ترى
الشعوبَ العربية
كانت جثثا في الأرض تمشي
تحمل نظارة سوداء
وعلى رأسها كْريمْ شانتيي...



جثث
كانوا قد حقنوها
بشتى أنواع الحشيش والأفيون !
كانوا قد صبغوها
بكل ألوان الطلاء والزعفران !
كانوا قد حنطوها
بكل أشكال التوابل والكبريت !
ولم يكتفوا فزادوا في التزويق والتزوير...
قاموا بدلكها
بغرائب الزيوت والأذهان ،
ولففوها في خِرق وضمادات بالية...
لكن كانوا قد انتبهوا
إلى العيون لم يبق منها إلا الثقوب ،
فحشوها بغبار أبيض
ونقطة من رماد أسود في الوسط...
( ما كانوا يعرفون
أنّ الغبار والرماد
سيأتي عليهما يوم
يصبحان فيه شرارة ورصاصا ! )


كجثة ضخمة منتفخة
كالبالون
كحُجرة خاوية تُصَفِر فيها الريح
كان العرب...
قيل عنهم لن ترجع الروح
إليهم يوما لن تعود !
قيل وكَثر القال
حتى جاء المعاد !
وحدث العجبْ ،
عجبُ العُجاب !


فجأة ، وفي مسّ من جنون الانبعاث ،
نفخ إلهُ الحياة
في خياشيم العازر العربي ،
تمّوز الربيع...
فقام من سباته العميق...

نفض عنه غبارَ الزمن القديم
وتعفنَ السنين
مزّق عن عينيه حاجزَ العماش
وبيوتَ العناكب
أخرج من كبده نابَ الخنزير...
ولبس الجديد...

*******

قام العازر العربي برومثيوساً
في وجه آلهة الأولمب
المتغامزة عليه
الساخرة من أحلامه...

لم تصَدّق أنّه تمرّد عليها ،
أنّه يحمل شعلة النار ...
لم يُصدّق لمّا تفرّس فيها
وانفضح المستور
أنها بدون عيون...
ما كان يعلم
أنها بلا أنف وسمع ولسان
أنها أجسام خاوية ،
لا حسّ ولا فِكر !
" الآن عليّ أنْ أكسّر القضبان
وأهدّم الجدران
وأخترق الحيطان " !
هكذا قال ، هكذا فعل :
حرّر المقيدين على الصخور
قتل النسور القوقازية
في تونس وساحة التحرير
طارد " قاذفيه " بالجنون في الأرض البنغازية...

ما كانت شراراتُ شعلته لِتوقِفها حدود !
ألم تقفز في اتجاه المنامة وصنعاء ؟
ألم تشق طريقها إلى مسقط وبغداد ؟
ألم نراها سقطت كنيزك من السماء
على قمة الأطلس والريف والشيماء...؟
كم حاولوا أن يطفئوها ،
وكلمّا فعلوا
احتدم زيتُها نارًا ولهيباَ ... !
********


أرى برومثيوسَ العربيَ في آخر عصيانه
واقفا ثم جاثا على ركبتيه
أمام بحيرة طبْريّة
يغترف حفنة ماء بيده ،
لا يشربُ
بل وجهَهُ
يتأمّلْ...
يرى قبّة القدس في دائرة كفيْه ،
تلتقي نظراتُه بعيونها الساحرة ،
يفتتنْ بأسئلتها ،
بجلال ألوهيتها ...
تُحَمّسُه انتصاراتُه ،
فيقلع عن حياءه المعهود
ويعلن عن حبّه المنبوذ
عن عشقه أمام الوجود :
" ها قدْ عدتُ " !
فترتجّ الدنيا ،
ومن كل مكان تجيء الردود :
" عُدْتَ قائداَ ، أهلا بك " !

********
من يبدأ برومثيوسا
وينتهى عاشقا
لقدسه
لنفسه
يُعَرّي بشعلة قلبه
أسرارَ الجمال
وتزهرُ شفتاهُ الحَرّتان على ثدي الحياة…

من ينهض برومثيوسا
ويقاوم عاشقا
يكون نرجسُه عطرًا
من جذوة الشمس…
تكون قبلته قمرًا
من ثورة الحلم...
تعانقه النجوم وتسكن في جحيمه السماء...

CONVERSATION

0 comments: