قبل أيام مرت علينا ذكرى الثورة المصريّة 23 يوليو، ولا يسع المرء ناصريّ الهوى إلا أن يقف عند بعض المفارق التي نواجه اليوم في مسيرتنا ربطا بها، فمنذ انطلاق الثورة المصريّة الحديثة ضد نظام مبارك وبغض النظر عن سرقتها لاحقا على يد دجّالي "الربيع العربيّ" من كلّ الأصناف وكلّ الألوان، إلى أن عاد الشعب المصري وصلح بعض مسارها، منذ الانطلاق بدأنا نرى صور عبد الناصر مرفوعة بين الجماهير فاستبشر ناس الخير، وهؤلاء الناس، وأنا منهم، يتخبطون اليوم مع توجهات مصر رغم أننا بدأنا نشم فيها رائحة يا ما انتظرناها، على الأقل أعاد الإعلام المصري يوم ال-23 من يوليو بعض ألق تلك الحقبة.
بغض النظر، ولست في هذه الوقفة بصدد تقييم ما كان وما هو حاصل، ولكن وجدتني أعود إلى بعض أدبيّات الحقبة أو ما بعدها لأقف مع ما كتبه رجل لم تكن مسيرته مع الناصريّة سهلة لا بل ذاق منها عذابا شديدا هو د. رفعت السعيد في كتابه "تأملات في الناصريّة". يسأل الرجل أو يتساءل ويكتب عن أمور في الناصرية فريدة في التاريخ في تناقضيتها وتكامليتها في آن ويحاول سبر هذه "الغرابة"، فمثلا يقول عن ما حصل بعد استقالة عبد الناصر إثر هزيمة حزيران ال-67:
"مصر جاءت اليوم لتغفر للمخطئين من أبنائها، ليس عن طيبة نيّة وإنما عن وعي. وتكلّمت مصر... وأنصت التاريخ باهتمام ودهشة، فقد كانت كلمتها غير متوقعة. لقد وقفت – مرّة أخرى- مع عبد الناصر... رغم كل شيء ورغم الهزيمة. نادت باسم البطل المهزوم... ورفعت صورته عاليا. ولعلّها كانت أول مرة في التاريخ التي يصعد فيها قائد مهزوم سلّم البطولة ولعلها المرّة الأولى التي تلتف الجماهير حول قائد خسر المعركة لتحميه من نفسه ومن أخطائه... لتغفر له وتحرسه من أصدقائه، ومن أعدائه معا..."
طبعا يغوص الكاتب حول هذه وأخرى كثيرة في الناصريّة تحليلا، ولكن وبغض النظر عن خلاصاته، الإيجابيّة بالمناسبة ومن خصم للناصريّة، فلعلّ لمثل هذا ويكفي هذا ليجدّد الناصريون الأمل في الطريق للخروج من الأزمة المستفحلة تخلفا بأمتنا بمجتمعاتها، ونحن منها، وبالتالي ارتماء في أحضان أعدائها اجتماعيّا وسياسيّا.
الوقفة الثانية... اللّيونة البطوليّة.
أجمل لا بل أعمق، ما سمعت عن الأسباب الكامنة وراء الانجاز الإيرانيّ في المفاوضات الإيرانيّة الغربية هو هاتان الكلمتان: "اللّيونة البطوليّة"، سمعت ذلك من معلق إيراني لا أذكر اسمه، يجيد اللغة العربيّة إجادة يجب أن يحسده عليها الكثير من المعلّقين العرب. ووجدتني أسأل نفسي، متى تستطيع أن تكون ليّنا بطلا ؟!
تستطيع أن تكون ليّنا بطلا عندما تكون قويّا وليس بالضرورة بإمكانيّاتك، فيكفيك أن تقتل خوفك. الإمكانيّات التي توفر لك قوّة ومن ثمّ نصرا على قويّ أو ضعيف ليست بالضرورة أن تكون مقرونة بموت الخوف في داخلك، لكن موت الخوف بداخلك ليس دائما بحاجة لإمكانيات لتنتصر حتّى على قويّ.
إيران فاوضت سنوات طوال أشرس الأعداء وبليونة وحققت إنجازا هامّا، ودولنا العربيّة حاربت وفاوضت ولكنها فعلت ذلك على الغالب والخوف سيّدها فأخفقت، اللهم في حالات أغدق الله عليها ببعض قادة امتطوا الخوف الإنسانيّ الطبيعي بدل أن يمتطيهم، ومنهم من رحل كعبد الناصر وعرفات ومنهم من زال في سوريّة ولبنان ويقارع قراعا لا يقل صعوبة عن قراع من سبقوه في الدرب.
وفي وقفتنا...متى كانت آخر مرّة حاربَنا "الفرس" فيها أو اعتدوا علينا ومنذ أن انتصرنا عليهم في قادسيّة سعد بن أبي وقاص، فلماذا عداء بعض العرب لهم في إنجازهم ؟
هذا السؤال ريطوريّا أو استنكاريّا، فمن كفّر عبد الناصر ليس غريبا أن يكفّر الإيرانيّين، والعاجز الذي يسربله الخوف عن مناطحة من يتخيّله "ثورا" يعتقد أنه يستطيع أن ينطح من يتصوره "عجلا" غير مدرك إن هذا العجل من طينة أخرى صارع أكبر وأشرس ثيران ولم يخف "شنخرتها"، ولا يستأهل كلّ هؤلاء حتى "شنخرة" منه، لا بل حرام فيهم وكبيرة فيهم حتى "الشنخرة".
الوقفة الثالثة... مع الانتصار
من نافل القول أن الانتصار هو فعل نسبيّ، فانتصار الطفل الصغير على الكبير المعتدي هو ليس بإلقاء الأول الأخير مضرجّا بدمائه على الحلبة، هو بأن يحمي نفسه منه، وقس على ذلك. عندما آمنّا وكتبنا أن سوريّة انتصرت ومنذ السنة الأولى للعدوان، لم ينبع ذلك من أمنية أو تمنّي أو خيال رومانسيّ، وإنما إيمانا بأن سوريّة بشعبها وجيشها وقيادتها هي تماما كما مصر في أكتوبر عام 1956 وكما المقاومة اللبنانيّة في تموز عام 2006.
في وجه شعب محصّن بغالبيته العظمى بوطنيّته وبقوميّته وعروبته، ستفشل كل المراهنات على دقّ الأسافين بين شرائحه المزركشة انتمائيّا عقائديّا سماويّا، وهذا ما بدا جليّا وغالبا ومنذ بداية العدوان الشرس ودام ولذا فآمنا أن هذا أول بوادر الانتصار. وجيش عقائديّ من صلب هذا الشعب، ستسقط كل المراهنات على انشقاقه أو تفشي الفرار منه على خلفيّات انتمائية ثانويّة، وهذا ما بدا جليّا وغالبا ومنذ البداية وما زال فآمنا أن هذا ثاني بوادر الانتصار. وقيادة متماسكة مؤمنة فعلا بعقيدة قوميّة ممانعة مقاومة ممتطية الخوف دابّة تسوقها في الاتجاه الذي تريد وليس العكس، وأيضا هذا بدا ومنذ البداية ودام والنفر القليل الذي هرب ممتطى على يد الخوف وتبعاته، "لا قدّم ولا أخّر".
هذه ثلاثة مركّبات انتصار أي أمة وعلى مدى تاريخ البشريّة، وأبعد كثيرا عن النظريّة وتكاد تلامس البديهيّة. رغم طول العدوان واستكلابه المسعور وهذا لم يكن متوقعا، إلا أن هذا لا يقلّل من معنى الانتصار رغم الخسائر الفادحة روحيّا وماديّا، والذي لا شكّ مُهر بدعم حلفاء ما كانوا ليستطيعوا فعل شيء وإن أحبّوا حتى الصميم، لولا هذا الصمود الاسطوريّ لسوريّة بمركباتها الثلاث.
الوقفة الرابعة... مع المشترك
المشترك في الحالات الثلاث هو كثير، وفي صلبه أن الشعب أساس كلّ انتصار تصرّف في الحالات الثلاث بتعال على جراحه وعلى الأخطاء التي ارتكبت في حقّه مسامحا متسامحا وليس عن طيبة نيّة وإنما بوعيّ كما قال د. رفعت السعيد، لأن الجرح ومهما عمُق لا بدّ أن يندمل، لكن ضياع الأوطان جرح لا يمكن أن يندمل، وضياعها يكون أحيانا بيد بعض أبنائها الذين يبيعون أنفسهم للشيطان خطأ أو خطيئة والأمران سيّان.
مثل هكذا شعب يستأهل التقديس وليس فقط تصحيح ما ارتكب في حقه من أخطاء وخطايا، الآن في عزّ الأزمات وأكثر بعد جلاء الأزمات.
– sa.naffaa@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق