لماذا الإصرار على 12 ميل بحري؟/ علي هويدي

يتمسك الوفد الفلسطيني الموحد إلى القاهرة بمجموعة من الشروط لإنتزاع التهدئة مع الكيان الصهيوني وبوساطة مصرية، فبالإضافة الى شروط وقف العدوان، وفتح جميع المعابر، وإطلاق سراح أسرى صفقة شاليط الذين اعتقلهم الإحتلال في الضفة الغربية في شهر حزيران / يونيو 2014، وإطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى من أصحاب المؤبدات، كان قد أسرهم الإحتلال قبل توقيع إتفاق أوسلو في أيلول العام 1993، وإطلاق سراح رئيس وأعضاء المجلس التشريعي، وبناء مطار جوي، وميناء بحري، والسماح للصيادين الفلسطينيين بالإبحار والصيد لمسافة 12 ميلاً بحرياً.
ربما معظم الشروط واضحة لا لبس فيها، فلا جهد كبير في تفسير وفهم فتح المعابر، أو إطلاق الأسرى وبناء المطار أو الميناء، لكن لماذا الإصرار على السماح لصيادي الأسماك بالإبحار وبالصيد لمسافة 12 ميل بحري؟

نصت إتفاقية أوسلو للعام 1993 على السماح لصيادي الأسماك في قطاع غزة للصيد لمسافة 20 ميلاً بحرياً (37 كلمتر بعيداً عن الشاطئ)، لكن الإحتلال لم يلتزم أبدا بإتفاقية أوسلو، وإلا كانت الدولة الفلسطينية قد أقيمت في العام 2000 حسب الإتفاق، وبالتالي لم يسمح الإحتلال قط للصيادين بالإبحار سوى مسافة 12 ميلاً بحرياً وهذا كان في منتصف تسعينيات القرن الماضي. من ضمن اتفاق التهدئة التي جرى التوقيع عليها إبان العدوان الصهيوني على قطاع غزة بعد عملية "عامود السحاب" في العام 2012 وبرعاية مصرية، السماح لصيادي الأسماك بالإبحار والصيد لمسافة ستة أميال بحرية، عاد الإحتلال وكعادته خرق مضامين الإتفاق، وسمح للصيادين بالصيد لمسافة خمسة أميال بحرية ثم عاد وتراجع عنها بتاريخ 13/3/2013، ليسمح بالصيد لمسافة ثلاثة أميال بحرية فقط بسبب قيام فصائل فلسطينية بإطلاق النار على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، الأمر الذي أدانته منظمات حقوق الإنسان العالمية المتخصصة واعتبرته "عقوبة جماعية ومسّاً خطيراً بأرزاق الصيادين"، وكان نقيب الصيادين الفلسطينيين بقطاع غزة نزار عياش قد قال في مؤتمر صحفي عقد في غزة بتاريخ 10/10/2013 من أن"قطاع الصيد في القطاع يعاني من شلل بنسبة 90% من طاقته الإنتاجية بسب نقص كميات الوقود، وتشديد المنع الإسرائيلي للصيادين من العمل في عمق البحر".

حسب وزارة الزراعة الفلسطينية وحتى الأول من تموز 2014 وصل عدد صيادي الأسماك في غزة الى 3500 صياداً يعملون على طول 40 كلمتر من سواحل غزة، يعيلون أكثر من 50 ألف فلسطيني، وعدد قوارب الصيد وصل إلى أكثر من ألف قارب مختلف الأحجام والأنواع، ويعد البحر أكبر ثروة طبيعية في غزة وتُعد مهنة صيد الأسماك من المهن التقليدية التي توارثتها بعض الأجيال الفلسطينية عن آبائهم وأجدادهم بعد نكبة العام 48، لا سيما أبناء قرية الياجور قضاء مدينة حيفا الساحلية، ويعتمد عليها شريحة كبيرة من الغزيين.

كلما تقلصت مسافة الإبحار والصيد، كلما أثر سلباً على نوعية الأسماك التي يصطادها صيادو غزة، وهم بهذه الحالة مجبرون على صيد سمك السردين والأسماك التي تعيش في المياه الضحلة واستخدام شبك صيد صغير واصطياد أسماك صغيرة الحجم لزيادة كمية الصيد، وهذا يؤثر على بيض الأسماك وانقراض أنواع معينة نتيجة الصيد المتكرر، وهذا يشكل خطراً مستقبلياً على مخزون الثروة السمكية، ومع كثافة الصيادين في مساحة جغرافية محدود فهذا يؤثر سلباً على كمية وتوزيع الإنتاج، لدرجة الوصول الى حلول كخروج الصيادين بالتناوب!، والعكس صحيح تماماً كلما زادت مسافة الإبحار كلما زاد عمق المياه، ووجود الأسماك المتنوعة والتي تكفي الجميع. يتذرع الإحتلال بأن منع الصيادين للإبحار وصيد الأسماك لكل هذه المسافة لدوافع أمنية والخوف من تجارة السلاح أو العمليات الإستشهادية، مع العلم بأن البحر لم يستخدم كوسيلة من وسائل المقاومة والدفاع عن غزة إلا خلال العدوان المستمر في عملية "الجرف الصامد"، واستخدام سلاح "الضفادع القتالية"، وفي المقابل طالما أن هناك إحتلال، وفقاً للمعاهدات والمواثيق الدولية، من حق الشعب الفلسطيني ممارسة جميع وسائل المقاومة لاسترجاع حقوقه المشروعة.

دمرت آلة الحرب الصهيونية أكثر من 52 قارباً للصيد من مختلف الأنواع والأحجام، وعطَّلت ممارسة مهنة الصيد وحرمت وبشكل مباشر 52 عائلة من قوت يومهم، حتى أن خلال أحد أيام التهدئة وتحديداً يوم الاربعاء 13/8/2014، وبعد مرور 38 يوماً على العدوان الصهيوني، حاول بعض الغزيين الإستفادة من الوقت لممارسة مهنة الصيد والحصول على ما يسد رمق أبنائهم التي فقدت الكثير من احتياجاتها اليومية الضرورية، إلا أن الزوارق الحربية الصهيونية أطلقت نيران رشاشاتها على الصيادين في رفح وأجبرتهم على العودة إلى الميناء المدمر. وخلال سنة 2013 تم إعتقال 40 صياداً فلسطينياً "لتجاوزهم المسافة المطلوبة"، وصودرت ثمانية قوارب وحوالي 20 شبكة صيد، لم يتم إعادة أي منها، ومارس الإحتلال حتى ما قبل بداية عملية "الجرف الصامد" للعدوان على غزة، ما يعرف بـ "إجراء السباحة" الخطير والمهين، إذ تفرض بحرية الإحتلال على الصيادين وبقوة السلاح خلع ملابسهم، والسباحة في البحر حتى سفن سلاح البحرية، بغض النظر عن ظروف الطقس، ويقومون برفع الصيادين إلى السفينة، ويُؤخذوا الى التحقيق الى ميناء مدينة إسدود المحتلة وأيديهم مكبلة وأعينهم معصوبة، ومعظم الصيادين الذين اعتقلوا يحمل جهاز GBS لتحديد المواقع يؤكدون "بأنهم لم يخرجو عن حدود منطقة الإبحار التي حددها الاحتلال"، لكنها سياسة الإذلال والتضييق.

المجتمع الدولي مطالب بالضغط على الإحتلال لتحقيق مطالب الوفد الفلسطيني مجتمعة لا سيما بناء الميناء والسماح بمسافة الصيد وفي المقابل يجب على المنظمات الإقليمية والدولية المتخصصة التعويض على المتضررين من الصيادين وتأمين ما خسروه من معدات لاسيما القوارب التي دمرها الإحتلال.

لذا حين يتمسك المفاوض الفلسطيني بحق السماح للصيادين بالإبحار وممارسة مهنة الصيد لمسافة 12 ميلاً بحرياً ويُصِّر على انتزاع هذا الحق، ليس فقط على مستوى تنشيط وتنمية عجلة الإقتصاد في غزة والتبادل التجاري مع الدول والإكتفاء الذاتي من الأسماك على أهميتها، وإنما يأتي كذلك في سياق تحرير جزء إضافي من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتسليط الضوء على ظروف واحتياجات شعبنا الفلسطيني الواقع تحت الإحتلال، وفضح الممارسات الصهيونية وإنتهاكها لحقوق الصيادين المشروعة من جهة، ومن جهة أخرى الحفاظ على كرامة الإنسان الغزي، وتوفير اليد العاملة التي تعاني من البطالة (32%) بسبب الإحتلال والحصار، وبسبب هدم السلطات المصرية للأنفاق كونها كانت ودون مبالغة المتنفس الوحيد لسكان القطاع.

*كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني

CONVERSATION

0 comments: