عش ألف عام يا مانديلا/ فاطمة ناعوت

المصري اليوم
أكثرَ من عشرة آلاف يوم قضيتَها فى عتمة الظُّلم والظُّلمة والظَّلام وراء القضبان الباردة، من أجل العدالة والشرف ونُصرة المستضعفين فى الأرض. مع كلِّ فجر جديد من تلك الأيام المعتمة، ينبتُ وسامٌ فوق صدرك، وفوق هامتِك يُزهر إكليلُ غار. فخبّرْنى أيها الطائرُ الطويلُ العنق، كيف كان بوسع صدرك الواهن هذا، وشعرك الأشيب ذاك، أن يحملا كل هذى الأوسمةَ والأكاليل، دونَ أن تُحنى رأسَك المرفوعَ أبدًا؟! كيف بربّك أيها العجوز الطيب لم تبرح وجهَك الأسمرَ هذا، وعينيكَ الصافيتين هاتين، تلك الابتسامةُ العذبة الواثقةُ وأنت تحملُ همومَ شعب من الفقراء والمظلومين والمقموعين باسم العنصرية العِرقية؟

باسم قانونٍ جائر، اعتبروك مجرمًا وسيّجوا من حولك السياجَ الغلاظ. وحين اكتشفوا هولَ قوتك، وثِقَل الشُّعلة فى قبضتك، وهدرَ الجماهير التى ترمقك بعين الأمل، خافوكَ، ثم ساوموك. حريتُك مقابلَ القضية التى نذرتَ لها العمر والدم. لكنك لم تقبل المقايضة. رفضتَ الحريةَ المقرونة بالخيانة، ورحبتَ بالسجن الذى يصنع الحرية النبيلة. حرم نفسَه كـرجل من بهجة مرافقة الزوجة، وكـأبٍّ من متعة متابعة أطفاله يكبرون، فلم يرهم إلا بعين الخيال من وراء قضبان زنزانة ظالمة، مُفضّلا أن يكون زوجًا لرسالة، وأبًا لشعب كامل، تسقيه حكومتُه البيضاءُ الويلَ لأنه خُلق أسمرَ البشرة؛ فنزعت عنه خيراتِ بلاده وحريتَه وحقَّه فى تقرير مصير وطنه. آمن بأن الإنسانَ إن رأى إنسانًا يُهان، ولا يشعرُ هو ذاتُه بالإهانة ذاتها، فهو ليس حرًّا ولا يستحق إنسانيتَه. ولأنه حُرٌّ؛ كان يشعر بأن كل إهانة تُوجّه لأحد الملونين، هى إهانةٌ له أيضًا، ولأنه حُرٌّ، حارب تلك الإهانة، وعاش زهرة عمره فى المعتقل ثمانيةً وعشرين عامًا.

غاندى العظيم، اختار طريقَ اللاعنف الطويل لتحرير بلاده، بالجوع، والعطش، والسير أيامًا حافى القدمين. وانتصر. وأنت، أيها العظيم، رأيتَ أن السِّلم واللاعنف مع حكومة وحشية لونٌ من العبث. وآمنتَ بأن لا تسامحَ، مع غير المتسامح. وانتصرت.

نحن محظوظون إذ عاصرنا فريدًا مثلك. لا يأتى شبيهُه إلا مرةً كل ألف عام. قرأناك فعرفناك وتعلمنا منك. لنحمل من بعدك شعلاتٍ صغيرة تناسبُ هاماتنا النحيلة، ولكنها دائمةُ النار والنور بقدر أحلامنا الشاسعة بالعدل والجمال والتحضر والإنسانية.

نحملُها ونمضى، لنكملَ طريقَك «الطويلَ إلى الحرية». وعرٌ وشاقٌّ لكنه الطريقُ الذى نورٌ فى نهايته، مهما واجهتنا عثراتٌ وآلام. وجهُ الله ينتظرنا فى نهاية الطريق، فكيف لا نمضى مهما أثخنتنا الجراح؟! لا تمُت أبدًا! فمثلك لا يموتُ وإن رغب فى هذا. فعشْ ألف عامٍ يا مانديلا.

CONVERSATION

0 comments: