المتنبي إنسان بالقوة ، ولهذا تلاقفه الدهر/ كريم مرزة الأسدي

4 - المتنبي : أبو الطيب ، أحمد بن الحسين الجعفي الكندي ولد في الكوفة ( 303هـ - 915م ) ، وقتل بالقرب من النعمانية،عند دير العاقول سنة (354هـ -  965م) ،في موضع اسمه (الصافية) :
المتننبي تعرفه مَنْ هو المتنبي !  والمُعرّف لايحتاج الى تعريف ، فالتعريف به تصغيرٌ لنا  وله ! ،وقد ذكرنا هذا من قبل في  معرض حديثنا عن تغرّبه النفسي ، وغربته  في مقالات سابقة.
بدأ حياته ملعلعاً  صارخاً غير آبهٍ بهذا ولا ذاك ، يقول المعري في (معجز أحمد) :إنّ أول شعر قاله في صباه من (العراقيات) :
أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني*** وفرق الهجر بين الجفن والوسن
روحٌ تردد فـــــي مثل الخلال إذا **** أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولاً أنني رجـــــلٌ **** لولا مخاطبتي إيـــــاك لم ترني
المتنبي جشّم نفسه خمسة أشطر ، ليصل إلى الشطر السادس ، وهو بغيته ، ومراده ( لولا مخاطبتي إيـــــاك لم ترني  ) ، فالرجل منذ طفولته كان يتطلع إلى زلزاله الكبير، وبركانه الرهيب ، لِمَ لا ؟! وكان محلهُ فوق محل الشمس  ،والدهر لشعره منشد ،عرفته الخيل والليل ..والقرطاس والقلم،بيّن الله به الأقدار ، فملأ الدنيا وشغل الناس.... كلّ ُ هذا صحيح وأكثر منه ،والدّرّ ُدرّ ٌ برغم من جهله،ولكن الصحيح أيضاً وأصح منه ، كان فنـّه أكبر من عقله ،وخياله أوسع من فكره ،وطموحاته الدنيوية دون همّته الآبدية ، وإنْ زعم ، فما تزعّم ! ، وهذه من خفايا هبات الطبيعة للإنسانية وجمالية  لطفها للخالدين ، وقد ارتجلت بيتاً من الشعر حول هذه اللمحة لحظة تطرقي إليها أبان تأليفي كتاب ( للعبقرية أسرارها ...) ، ، فخاطبت متنبينا قائلاً :
لقد طلبتَ من الأيّام ضيعتها *** لكن أبى الدهرُ إلا يوهب الخَلدا !!
  مهما يكن  من أمر ، مبالغات المتنبي لم تكن  سوى الترفع عن خبث الجسد للسمو إلى جمال الروح ، وليكن بعدها ما يكن - يا دنيا -  : 
وإنّي لَمِنْ قَوْمٍ كأنّ نُفُوسَهُمْ *****بها أنَفٌ أن تسكنَ اللّحمَ والعَظمَا
 كذا أنَا يا دُنْيا إذا شِئْتِ فاذْهَبي *** ويا نَفسِ زيدي في كرائهِها قُدْمَا 
فلا عَبَرَتْ بي ساعَةٌ لا تُعِزّني *****ولا صَحِبَتْني مُهجَةٌ تقبلُ الظُّلْمَا
ألم تقرأ بربك الأبيات ؟! ، مثل هكذا رجل ، لا يمكن له أن يعيش مع مجتمعه إلا بالقوة ، لذلك كان متنبينا محسوداً ، مكروهاً ، مذموما  حتى من قبل الملوك الذين خصهم بمديحه الذي رفع شأنهم في الحياة ، وخلدهم في الممات كسيف الدولة وكافور وعضد  الدولة ، وتذكر بعض  الرويات ، أن العضد البويهي ، هو الذي أوعز للفاتك الأسدي بقتل المتنبي ، أو على الأقل التغاضىي عن محاسبته ، نواصل مسيرة المتنبي القوية بإرادته الصلبة ، فقوله  الآتي ، وهو مما نظم في بدايات حياته - أي من العراقيات -  دليل أخر على  تطلعه لفرض قوته جبراً ، ونجح ! : 
    
أيُّ محـــــــلٍّ أرتقي *** أيّ ُ عظيــم ٍأتّقي
وكلُّ ما قدْ خلقِ اللـ ****ـــهُ ومـا لمْ يُخلق ِ
مُحتقرٌ في همّتـــي ***  كشعرةٍ في مفرقي
  ومع ذلك ،الشرخ الواسع ، والهوة السحيقة الفاصلة بين  واقع الحال،والخيال المحال،ومحاولة جمع النقيضين ،  والسلوك بمظهرين متضادين  ، جعله عاثرا مُعثـَّرا في سلوكه الاجتماعي ، نظرة إعجاب وموضع إستهزاء ، فمدَّ غربته بتغربه،حتى رأى الناس غير الناس ،والدنيا غير الدنيا ، والزمن غير الزمن ،أراد أن يطوّع الزمن كما يشاء ،أو أن تجري الرياح كما يشتهي !! وإلا :
أذمُّ إلى هذا الزّمــــــان ِ أهيلهُ **فأعلمهمْ فدمٌ وأحــزمهمْ وغدُ
وأكرمهم كلبٌ وأبصرهمْ عمٍ ****وأسهدهمْ فهدٌ وأشجعهمْ قردُ
   ماذا بقى - يا قارئي الكريم  - من كلام بعد هذا الكلام ، كي نُطالب بكلام أمّا بعد :هذا التغرّب النفسي الذي أجّج هياج المتنبي وتمرّده  ، وأدلع همّته بغربته وتنقله....
 .
وللمتنبي قول رائع يصب في هذا المعنى , ولا أراه الا ما رأى نفسه بهذا البيت , ولو أنـّه رمى به غيره :
إذا ساءَ فعل ُالمرءِ ساءتْ ظنونُهُ***وصدّقَ ما يعتادُهُ من توهّم ِ 
ولاريب ، أن العباقرة  والمفكرين والشعراء هم أكثر الناس تفكيرا وتوجسا وتخيلا , ومن هنا نتفهم بسهولة  قوله الرائع الآخر :
ذو العقل ِ يشقى في النعيم ِبعقلهِ *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
للتغرب النفسي ظروفه الذاتية والموضوعية التي تتفاعل حيويا في عقل ووجدان العبقري في لحظات معينة - قد تطول ، وقد تقصر - لتنعكس على شكل إبداع أو كآبة أو تصرف ما ، وإذا زادت شدّته ،وطالت مدته ،  قد يؤدي إلى حالة جنون أو  فسحة مجون ! أو مغامرة طائشة ، أو محسوبة  بدقة ترمي للمعالي ، والنفوذ والخلود ، فعندما  كبست أنطاكية، وقتل مهره الذي وصفه ، طالعنا طامحاً بمطلغ من أروع مطالع قصائده ، بل القصائد العربية ، إذ غرف من ( وافره) : 
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ*** فَلا تَقنَعْ بمــا دونَ النّجومِ 
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ****كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ 
ستَبكي شَجوهَا فَرَسي ومُهري** صَفائحُ دَمْعُها ماءُ الجُسُومِ 
قُرِينَ النّارَ ثمّ نَشَأنَ فيهَــا ***** كمَا نَشأ العَذارَى في النّعيمِ
 وفارَقْنَ الصّياقِلَ مُخْلَصاتٍ *****  وأيْديهَــا كَثيــراتُ الكُلُومِ 
يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ ***** وتِلكَ خَديعَــةُ الطّبعِ اللّئيمِ 
وكلّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغني****ولا مِثلَ الشّجــاعَةِ في الحَكيمِ
هذا ليس بكلام مَن يسير بدنياه بهدوء ، أو تعقل جبان ، وإنما هو طموح يُفرض بالقوة ، ونكرر معه قوله : 
وكل شجاعة في المرء تغني***ولا مثل الشجاعة في الحكيم
بربك قل لي إذا نتغاضى عن جبن الفرد ، وتعقله المزعوم ، وسكوته المنافق ، وشيطانه الكامن ، فكيف بنا ، وإلى أين سيرمينا الموج الهادر في الزمان الغادر ، عندما يخذلنا القادة الصغار ، طمعاً ببقاء مهزوم ،لتخمة كرش ، أوهش بش !! ، ويقف معهم العقل الجمعي أبان غيبوبته ، وغفوته ، وقد انتبه عبقرينا إلى هذه الثغرة في الحياة ، ولك أن تقول حكمة ، فما يدريك ، ويدرينا !!
 يموت راعي الضأن في جهله  *** ميتة جالينوس فــــي طبِّه 
وربما زاد على عمــــــــــــره ***وزاد في الأمن على سِرْبه
قلّة نادرة من البشر يلتفتون إلى ما نذهب إليه ، والندرة النادرة من يشير إليها ، وأنا منهم ، لك أن ترضى ، ولك أن تأبى !! أما أنا فسأسير على الدرب الذي فرضته الطبيعة عليَّ ، وجبلته بي، وما الدهر إلا عفطة عنز !! ، تعبت ، ومؤلفاتي الخمسة التي وعدتك بها ، والتي سأزفّها في  السنة القادمة إلى القارئ العربي الكريم ، تنتظرني  صابرة مجاهدة ، وما أنا - أناتك !! أكرر الأنا ، رغم أنفهم -  سوى إنسان قوي بإرادته وإصراره  وأمامي بحر الظلمات الذي يموج به عراقنا الحبيب دون شراع سليم ، ولا ربان حكيم ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، لعلهم يعقلون !!     

CONVERSATION

0 comments: