سلام فيّاض خسارة أم وهم/ جواد بولس

‏حدّثني صاحبي عن صاحبِهِ حكاية. في حزيران لها مذاق خاص، ففيه نحن نوقد مجسّات للوجع ونولم للراحلين موائد من طيب ولا نبكي، ما نفع البكاء على قليل مضى، كثيره قد يأتي على وزن "فعلة" بعد أن مررنا نكبة وبلعنا نكسة ونعيش وكسة. في حزيران لا عاشق ولا معشوق فهو شهر يطيب فيه النسيان وفيه القصة تقفو القصة وللرواية فصول.
على مدخل مدينة الخليل كان طابور السيّارات يمتد أطول من ليل عاشق. أحدهم لا يطيق الانتظار. في كل مرّة يصل إلى ذيل ذلك الطابور يلجأ إلى شقاوته التي لامست المشاغبة. يطير بسيّارته حتى يصل رأس الكومة. الجنود يوقفونه بحزم وأمر. يتبادل معهم بعض الكلام فيسمحون له بالدخول. كان من سكان القدس، خليلي الأصل، لا يخشى الجنود، معهم كان وقحًا، بعض العبرية تسعفه وهويته المقدسية الزرقاء حجّته. عندما تكرّرت الحادثة ذاع صيته. إخوانه الفلسطينيون اشتكوه لكباره. بعد أيّام حضر إلى ديوان العائلة. كان عليه أن يرد على تهمة تفيد أنّه عميل إسرائيلي يحظى بمعاملة خاصة من جيش الاحتلال ويقدّم لذلك على سائر السائقين كلّما وصل ذلك "المحسوم".
أخذ نفسًا عميقًا فشعر الحاضرون بضيق نفس. مع قهقهة قشط الكلام من بين أنفاسه المتقطعة: "ألله يسامحكو يا خالِ.. وينتا بدكو تصيروا تِعِئلوا .. أنا عميل إسرائيلي من وين يا حسرة .. هوِّ إسرائيل فاضيتلي، عندها قائمة طويلي بستنوا يفوتوا قبلي .. مانتو فاهمين البير وغطاه.." قبل أن ينهى دفاعه، علا خليط من أصوات تهمهم رضًا، خالطتها بعض الضحكات. في الجو شعور أن الاحتلال هزم. دارت القهوة. رجع المشتكى عليه بريئا ظافرًا. على ذلك "المحسوم"، كلّما كان يقترب من الجنود وبعد جملتين يدخل الخليل بسهولة. كان شقيّا وربما أكثر.
وكأنّنا نعيش في فلسطين في حلم لا ينتهي، لن تعرف أين الحقيقة وأين الخداع، كأنّنا في كهوف، جدرانها وسقوفها مرايا وكذلك أرضيّاتها. كل صورة قد تكون حقيقية وقد لا تكون. الخلف قد يكون أمامًا، لن تعرف من على من ومن يتقدم من؟ مشاهدة السكين في الظهر قد تخدعك. فمن الطاعن ومن المطعون؟ تقتلنا التفاصيل الصغيرة، تتوالى جراحًا على دماء جراح. لا وقت للتأكد، لا وقت للتكهّن. الخبر منارة، قد تكون مصيدة والشائعة نصل قد يصير مدفنًا.
ذاكرة الشعوب قصيرة وفي فلسطين لا قصر ولا سعة. قبل أسبوع أنهى الدكتور سلام فياض عمله كرئيس لوزراء فلسطين. لم تضف الحملة ضد حكومة د. فياض في الشهور الأخيرة على المشهد الفلسطيني احترامًا بين الأمم، ولا ساعدت على تعزيز ثقة الناس بسلطتهم الوطنية. إلى مدى بعيد حوّلت بعض الجهات سهامها صوب الدكتور سلام لسهولة الاستهداف من جهة ولأغراض بعيدة على ما قد يصطلح عليه "بالمصلحة الوطنية الفلسطينية". ما سيق من حجج في "حرب" البعض ضد فيّاض لم يكن صحيحًا في جزئه وأحيانًا كانت "اتهامات" لم يؤمن حتى مطلقوها أنّها صحيحة. إلى ذلك، يبقى السؤال فيما إذا نجح الدكتور سلام فياض في مهامه كرئيس حكومة، سؤالًا مفصليًا، على المعنيين تداوله والقادرين على سبر غوره أن يفعلوا بمنهجية وشفافية وموضوعية.
كانت حركة "حماس" من بدأ المطالبة بإبعاده عن سدة الوزارة وكانت حجتها الأساسية ضلوعه في ذلك "التنسيق الأمني" بين قوات الأمن الفلسطينية وبين الأمن الاسرائيلي وعلاقته بالأمريكان. لقد بات واضحًا، اليوم، أن هذه الحجة لم تكن إلا ضربة قذفت في وجه فياض لسهولة تمريرها شعبيًا ولم تكن، بمضمونها، جدية وبريئةً. فها هي الأيام تمضي وحركة "حماس" بدأت تتذوق طعم السلطة وتعي أن للبقاء في القمة ثمن والتحول إلى "دويلة" له استحقاقات ودهاليز خاصة. فهل حقًا هنالك تفاهمات أمنية بين "حماس" وحكومة الاحتلال نفسها؟ ما هو موقف "حماس" اليوم من أمريكا لا سيما بعد توطيد علاقاتها مع الحكومة التركية وإمارة قطر وغيرها من الأنظمة "المرابطة" في أكناف أمريكا؟
ولئن كانت حركة "حماس" أوّل المناكفين لفيّاض وحكومته إلّا أن هديرها خفت في الآونة الأخيرة وأصبحت أكثر قبولًا له لا سيما وأنه أبدى استعدادًا واضحًا للعمل المشترك وسعى من خلال لقاءات تمت مع بعض من قادتها في رام الله لبحث سبل تطوير هذه الاتجاهات.
بالمقابل ناكفت بعض "الثغور" الفتحاوية وغيرها فيّاض وحكومته. إن اتهام بعضهم لفياض وحكومته بعلاقاتهم الفائضة مع الأمريكان والأوروبيين هو اتهام يستدعي البكاء أحيانًا ويستدعي كذلك كثيرًا من الضحك، في جميع الأحوال هو اتهام موجع لأن من كان من أولئك المتهجمين بلا هذه "الخطيئة" فيلرمِ هذه الحكومة بحجر. أما لأولئك الذين هاجموا سياسة وإدارة فياض المالية فلقد أجابهم الرئيس محمود عباس في أكثر من مناسبة مشيدًا بما أرساه فياض وبما شهدت له وعليه كثير من المؤسسات الدولية ذات الشأن والتأثير والاختصاص.
كان الأولى بمن سعى لمحاسبة فياض وحكومته أن يفعل ذلك بمقارنة ما أنجزه أولئك من مهام مقارنة بما أوكلوا به ساعة أعطوا الأمانة والثقة. اما أن يعلّقَ بعضهم ذلك على رقبة السؤال: هل كان فياض رئيس حكومة مناسبًا وأهلًا لقيادة حكومة فلسطينية، عندما لبس "الجينس" وغاص في وحل بلاده يقطف زيتونًا مرةً، ويحفر بئرًا مرة؟ بعضهم قتله تواضعه وبعضهم تساءل ساخرًا هل يعتقد أنّه في هولندا، هناك يصل رئيس الحكومة مكتبه راكبًا دراجته الهوائية. وللرواية فصول.

CONVERSATION

0 comments: