وصيةٌ من كاهنٍ بغدادي إلى أهلِه العراقيين/ الأب يوسف الجزراوي

كلمة القيت في مهرجان رابطة البياتي 
الأخ والصديق الأستاذ مظفر الجبوري وأنتَ تحزمُ حقائبَ السفرِ عائدًا إلى بغدادَ أُحملكَ وصيةً مفادهُا: قُلّ لبغدادَ إنَّ ثمةَ نارًا أندلقتَ في اعماقي، حين فتشتُ عبثًا عن تاريخٍ للسلامِ في ذاكرةِ العراقيينَ وسجلاتِ التاريخِ لمدينةٍ تُدعى مدينةَ السلامِ وهي لم تحظَ يومًا بالسلامِ.
قل لبلدي أن غصَّةً في قلبي، وجمرةً في فمي، واللظىْ يكوي احشائي، على سلامٍ عاش مُشردًا في بلدٍ علم الإنسانَ الحرفَ وهو منذُ بدءِ التكوينِ يقتاتُ من نفاياتِ الحروبِ ويدونُ تاريخهُ بالدمِ!. أهي محنة إزلية لبلدٍ، أمْ أنّها أخطاء ساسةٍ ورعونة حكّامٍ، أم أنّها أحزان شعبٍ نُحرَ السلامُ في بلدهمِ على مذابحِ الغرباءِ أمام مرأى الأبناءِ.
قل لبغدادَ: لماذا اعتادَ الحكّام على دهسِ الورودِ الطبيبعةِ، وشمِ رائحةِ العفنِ من الزهورِ الصناعيةِ. ولماذا اعتادوا ان يقتطعوا اصابعَ الكاتبِ، ويهحروا المثقفَ ويكرّموا المبدعَ يوم يحتضنه القبر في منفاهْ؟. 
وقل لشعبي: لماذا طائر الحُبِّ تحول إلى نسرٍ جارحٍ ومن ثَمَّ غدا رمادًا تحت أنقاضِ الليلِ؟.
ولماذا غابت الشمس وتوارئ القمر، حتّى نجوم الليلِ باتت سوداءَ كالفحمِ؟.
ولماذا نحنُ العراقيينَ نكتبُ عن العراقِ من خلفِ قضبانِ الغربةِ؟
ولماذا اعتاد واحدنا ومنذُ عقودٍ أن يدونَ في سجلاتِ الذاكرةِ المثقوبةِ وأعماقِ الذاتِ الجريحةِ مشاهدَ اغتيالِ حمائمِ السلامِ وهي تنزف من جرّاءِ مشانقَ ذهنيةِ ومقاصلَ إعدامٍ سياسية؟.
فمنذُ أنْ كتبَ الوطنٌ وصيتَهُ، قلتُ على بغدادَ السلامْ، وحلقتُ مكسورَ الجناحِ فوق اسورِ الوطنِ ، يوم أضحى حبُّ الوطنِ تُهمةً كبرى. ودعني أهمسُ لك سرًا: إنّني ما زلتُ متيمًا بحبِّ العراقِ، وولهانًا حتّى العشقِ بعروستي بغداد. وإنْ كنتُ قد شنقتُ ذكرياتٍ عراقيةً جميلةً؛ أمسى وجعُها يؤرقني في أرضِ الاغترابِ، يومَ ايقظتني الغربةُ على وجعِ بلدي؛ حيثَ رأيتُ الكمانَ وحيدًا، ينوحُ نعيَ دجلةَ، ورثاءَ الفراتِ. 
وأذكرُ يومَ قضى الجواهري والبياتي ويوسفُ السعيد في غربتهمِ كيف ترملَ الشعرٌ في العراقِ، وكيف امتشقتُ قلمي وقررتُ أن أقولَ ما بي وأنا أُرددُ في سرّي كفى صمتًا، ولكن ما أصعبَ الكلامِ.
وأخيرًا سلمتُ جُرحي للقلمِ وأهديتُ للورقِ حزني، عسى أنْ يجدَ الكاهن البغدادي في الحرفِ العزاءَ. 
قُلّ لاهلي العراقيين المنكوبين في مهدِ الحضاراتِ والمقدساتِ؛ إنَّ الجزراويَ ذلك الكاهن البغدادي الهوى والمولدِ يعتذر من الذين نجحوا في اخراجهِ قسرًا من بلدهِ، لأنهم فشلوا باخراجِ العراقِ من قلبهِ.... قل لهم غدًا ستُشرقُ الشمسُ وسينشرُ النخيلُ الفيءَ وستعودُ حمائمُ السلامِ إلى اعشاشهِا في الوطنِ. أجل سيعودُ السماوي والربيعي والعامري وتوما والجزراوي والجبوري والياسري إلى أرضِ الأجدادِ ومنبعِ الثقافاتِ وسنُقيمُ للبياتي مهرجانًا في بغدادَ والنجفِ والموصلِ حيث مرابع الصِبا واجراس الكنائسِ وشعائر الحسينياتِ، وقبة النبيِ يونان وبيت الحكمةِ والمجمع العلمي العراقي.
استحلفُكَ يا صاحبي بتُرابِ العراقِ الذي اشعلتُ شمعةً عن روحهِ أنْ تقولَ للساسةِ في بلدي: إنّني ما كنتُ أتصور يومًا أنّني ساكونُ مواطنًا في بلدٍ سوى وطني العراق؛ حيث أهلي وشعبي وكنيستي ولغتي وشاهد قبرَ أبي. أجل ما كنتُ أتصورُ أن شموعَ صلاتي سَتَبكي العراقَ إلى هذا الحد، وما كنتُ أتصورُ يومًا أنني سأكتبُ عن العراقِ من خارجِ حدود العراقِ.
يا رب شيئًا واحدًا أسالك أنْ تمنحَ العراق والعراقيين والناس أجمعين، السلامَ والأمانَ ليكونوا بشائرَ محبةٍ وإبداعٍ. اللهم آمين وآمين. والسلام معكم وعلى الناسِ أجمعين.

CONVERSATION

0 comments: