منتجات دهاليز الوهم/ عبد العالي غالي

لعلمي بأن الغضب أجمل ما يمكن أن ينتجه شعب، أقول أن أروع الغضب ما تحرر من المفهوم الواحد... وأضيف أن الغضب المتحرر لا يتأتى إلا في محيط منفتح يصر على إخراج كل معتمه إلى واضحة النهار، كي تتم فيه باستمرار عملية تنشيط الدورة الثقافية لأجل نفض الخمول وإرجاع الإنسان إلى غواية الشك وهواية التساؤل والحلم الجميل... فوحدها الأحلام الجميلة يمكن أن تكون بديلا لتسفيه الحياة الذي أصبح سمتنا في عالم اليوم مهما عاند كل ذي فكر منقب... خصوصا بعدما استحوذت هذه الكائنات الانفجارية على صورة الوضع العربي الباعث على الغثيان، وأضحت العنوان الرئيس الذي يقبع تحت خانته كل من يدعي مجبرا أو مخيرا هذا الانتماء... هي صورة اختزالية مجحفة ولا شك، لكن دوي الانفجارات وهديرها الذي طال العواصم والضواحي والعرب وغير العرب والشيخ والكهل والمرأة والصبي والخائف والآمن والمسلم وغيره... كل ذلك لا يترك مجال حركة لكل من أراد أن ينصب نفسه محامي دفاع... إذ لا مكان اليوم في الوطن العربي سوى للتوجس والرعب... وذلك لأن الشظايا عمياء، ومن يوجهها أشد عماء...

وهنا أود لو ترسخ في أذهاننا، أن عقم الاجتهاد هو ما يؤدي حتما إلى غريب الجهاد... فكل من يلقي ولو نظرة بسيطة على التراث العربي الإسلامي سيجده ضاجا بمؤلفات لا تنتهي عن الوسطية والتسامح والاعتدال، حتى ليعتقدن المطلع أن من أنتج كل هذا لا يمكنه إلا أن يكون متطرفا في تسامحه، وألا جدوى من مناقشة وسطيته... غير أنه وبقليل نباهة سيكتشف الدارس أن كل ما قيل ويقال في الكتب، لا يعدُ أن يكون لجوءا ثقافيا لأصحابه لا دخل للمجتمع فيه، ولا الشعوب معنية به بالتأكيد... فكل ما كتب ويكتب في هذا المجال ليس إلا خدمة ثقافية طارئة لا وجود لها في الواقع ولا إيقاع ولا حتى صدى... وان كان الأصل في العرف السليم أن يُملأ الواقع بالتسامح لا بطون الكتب...

ولا غرابة اليوم، إذ نلحظ أننا نتوفر على جيش عرمرم هائل يفوق الحاجة من المناظرين والمجادلين والمحاججين... بل وعلى آلاف الفقهاء الذين لا يتورعون في إرسال فتاوى تلزمها أكثر من تأشيرة ذات اليمين وذات الشمال... متناسين أن واقعنا هذا ما أتعبته غير الفتاوى، وغير مدركين أن عدد المفتين عندنا أصبح أكبر بكثير من عدد القضايا التي قد تستلزم الفتوى... وكم أطربني أحد الظرفاء حين قال أننا حتما سنغرق يوما تحت وابل الفتاوى، خصوصا وأننا بلا مظلات تقي... ومع كل هذا الازدحام الفكري والثقافي، لا يستطيع جريء أن يقف في وجه من يقول أننا شعوب منكوبة ثقافيا؟... نكبة تحولت معها العرب العاربة كما المستعربة إلى ضيوف على العصر. وتحولت معها الكيانات المسماة مجازا عندنا دولا، إلى مناطق وباء فكري ُينصح عالميا بعدم الاقتراب منها كما هو متعامل به مع مصاب بالجذام...

الغريب أن ينطلق نقيع وصراخ من مستنقع الوباء هذا، وفي زمن اتفق  العدو والصديق على أنه زمن الانحطاط الحضاري لأمة الغيبوبة الكبرى، ليتقول على العلمانية، التي جعلت من الاختلاف كعبة طوافها الفكري، ويتهمها بضيق صدرها وظلام أفقها وهلم شتائم... بينما الزعيق والشتم قادم من جماعات غارقة في التشابه والتجانس ورتابة الوجود وأوهام المطلق... ومن شباب في لذيذ العمر تحول غير مدرك إلى خرسانة من قناعات لا تبني أفقا، فما عاد أمامه غير معانقة الانمحاء والزوال ما دام لا يستطيع أن يجد للحياة طعما... فنراه يطور بعشق صناعة الموت ويبدع فيها... بل المقزز حد الوجع أن تدعي هذه الكائنات الانفعالية والعصابية حمل هموم حاضرنا ومستقبلنا، ونحن أعلم الناس بأن أبسط ردود أفعالها سحب الخناجر من الأغماد أمام أهون خلاف، وسل السيوف لتقطيع الرؤوس والتفنن في أساليب السبي وتقاسم الغنائم... والأدهى من ذلك أنها ما عادت  تحسن حتى التصرف في غريزة حب البقاء... فنراها تثير أن تتحول إلى أشلاء يستحيل أن يجمعها قبر مهما حرص المحققون وكل الطب الشرعي...

فكيف يمكن أن ننتظر من أمة بهذا العقم أن تنجب فجرا؟... وكيف يريد منا البعض أن نلزم الصمت ونحن نرى من هم بهكذا قبح يتسللون في غفلة من الزمان لمواقع قد تتيح لهم فرصة استعباد مستقبلنا؟... إذ يدعون زورا وبهتان أنهم حماة حمى العقيدة، ويتزيون تكتيكيا بالوسطية والاعتدال، والثابت أنهم من أنتج التطرف ورعاه في دهاليز الوهم التي أنشؤوها لذات الغرض... ثم نراهم يمارسون نفس لعبة الخبث التي مارسها من سبقهم إذ يجعلون وسطيتهم المزعومة هذه، في مقابل التطرف الذي أبدعوه... أو نريد أن نطرق باب الحرية والديمقراطية بهذه الأيادي الآثمة؟... على من يكذبون؟... ألم نقل من قبل أن البعوض سيد الأوضاع الآسنة؟...

وحتى نتخفف من هذا القرف، لا بأس نحكي بقرف عن ذاك الشاعر العربي الأعمى والذي غارت في وجهه الندوب من آثار جدري قديم، إذ سئل مرة عن حال الوطن العربي فأجاب: انظر إلى وجهي مليا ترى الوطن العربي...

المغرب

CONVERSATION

0 comments: