الدين بين الشرق والغرب/ مهندس عزمي إبراهيم

العنوان الأفضل والأنسب والأوضح للمقال هو: تقييم الدين، أو قيمة الدين، أو مكانة الدين بين "الشرق المؤمن المتديّن" و"الغرب الكافر العلماني".
التناقضات بين الشرق والغرب كثيرة، عديدة وعظيمة. أصَوِّب المنظار هنا على إحداها. فمن أغرب التناقضات أن الأديان جميعاً في "مجتمع الشرق المتديّن" ملطشة (باللغة العامية المصرية)، أي تُنتهَك جميعاً ويُساء معاملتها علناً وبلا حياء حتى ممن يعتنقها وحتى ممن يدّعون التديّن. بينما الأديان في الغرب "الكافـر" (كما يسمونه في الشرق) مُصانة ومحترمة ومُوَقرة من الجميع، حتى ممن لا يتبعونها!! لأن القانون المدني بدساتير دول الغرب الديموقراطي العلماني يحمي الأديان جميعاً.
في الشرق يبدو (وأكرر.. يبدو) أن الناس (وأقصد غالبية الناس) ينامون ويصحون على الدين، يرضعون دين ويأكلون دين ويشربون دين ويمضغون دين ويتشدقون بالدين. ويفتخرون أنهم متدينون ويطلقون على أهل الغرب أنهم كافرون. واهمون أهل الشرق (أو معظمهم) بؤساء مخدرون بمخدر الدين. فالحقيقة الصارخة أن الغرب يُقدّر الأخلاق الكريمة والتعايش الحسن مع كل البشر بكل خلفياتهم، ويُقدّر العِلم والعمل والإنتاج والإبداع لصالح البشرية فوق كل أمر وقبل كل شيء، وإلى جانب ذلك.. يحترم الأديان والمقدسات أكثر مما يحترمها الشرق المتدين.
فمن أغرب الغرائب أن الدين في الشرق، مهد الأديان، (ملطشة) حتى ممن يعتنقه!! فمن السباب أو الشتائم الشائعة في الشرق (يا ابن دين الكلب) والأسوأ من ذلك سهولة استعمال كلمة يلعن، فيقول (يلعن دينك) و(يلعن دين أمك) و(يلعن دين اللي خلفوك ودين اللي جابوك). تلك عيّنات أي بعض الشتائم تلقى من مواطن لمواطن، من مسلم لمسلم.
أما من مسلم لغير المسلم فكل هذه الشتائم وَزِد عليها (كافر) و(هالك) و(ملعون) و(عباد الصليب) و(أولاد قردة وخنازير) وكأن آدم وحواء لم ينجبو إلا مسلمين. وطظ (لا مؤاخذة) في نوح وداوود وموسى وإبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف، فرغم أنهم أنبياء في اعتقاد المسلمين، لكنهم أبناء قردة وخنازير أيضاً. ولو كان الشتام مثقف يقول عن غير المسلم (مُشرك). هذا التلطيش بالدين في الشرق شائع ويقوله الخفير والوزير، والبواب والباشا، والبائع والشاري، والخادمة والست هانم. وجميعهم يدَّعون أنهم متدينون مؤمنون بدينهم، وبما جاء في كتابهم تقديساً لأصحاب الكتب السمائية، موسى وعيسى!!
لي بالغرب أكثر من خمسة وأربعين (45) عاماً منذ عام 1969، ولست أبالغ حين أقول أني لم أسمع إطلاقاً تجريحاً أو سَبّاً لدين أو للأديان. بل لم أجد بدول الغرب العلمانية المدنية الديموقراطية إلا قوانيناً مدنية صارمة حازمة تُحَرِّم اضطهاد الأديان وازدراء الأديان جميعاً وتُجَرِّم الطائفية وتعاقب العنصرية، بعكس الشرق المتدين!! في (45) خمسة وأربعين عاماً بالغرب لم أسمع واحدة مثل تلك الشتائم المهينة للدين، بينما في الشرق أسمع (45) خمسة وأربعين منها في اليوم الواحد في الشارع والسوق والمكتب والملعب والمصنع والورشة والمدرسة والجامعة.. وغيرها.
خمسة وأربعين عاما بالغرب، لم أر جامعاً أو معبداً أو مركز خدمات لأي دين هُوجم أو حُرِق أو هُدم أو سفكت به دماء المصلين العابدين. حتى مجرد التهديد الشفهي بشيء من هذا القبيل يعتبر في الغرب جريمة يهب الأمن والقانون ورجالهما فوراً للقبض على من أصدر التهديد ومحاكمته وعقابه. وفي وطني "المتدين" بالشرق "منبع الأديان" و"مهد المقدسات" هُوجمت وحُرِقت وفجرت كنائس ومراكز خدمات مسيحية لا تحصى، وسفكت بها دماء وأهدرت مئات من أرواح الأبرياء على مدى عصور قديمة ومعاصرة، دون ذنب جنوه إلا لأنهم من دين آخر. والأسوأ من ذلك أن لا من تحقيق واحد في أي حدث، ولا من محاكمة فرد واحد من الجناة، لمجرد أن المجني عليه من دين آخر، وفي قوانين الشريعة الإسلامية، قوانين القبيلة البدوية الهمجية، أن لا يؤخذ أو يوآخذ مسلم بدم غير مسلم!!! فمقدسات وأرواح غير المسلمين بالشرق المؤمن رخيصة رخيصة رخيصة.. رخص التراب، بل والتراب في الشرق المتدين أغلى وأثمن حتى قبل أن يُخلط بالنفط الملعون!!
خمسة وأربعين عاما بالغرب، لم أندم يوماً أني اتخذت قراري للهجرة. بل رغم عشقي لمصر وفخري أني مصري كان قرار الهجرة من أصوب القرارات التي اتخذتها في حياتي. ليس فقط من أجل حرية الرأي والعقيدة والعدالة والمساواة التي أنعم بها وأسرتي في الغرب، أو من أجل المنصب والمال والتقدير الذان يناسبان ما أضع من جهد في عملي دون تفرقة أو تمييز، بل من أجل ما وفَّر الغرب لأولادي من بيئة مثقفة علمية منتجة مبدعة ومجتمع راقي وأخلاق طيبة.
إن جوهر الدين هو الأخلاق الكريمة، لا يختلف في ذلك أحدٌ، سواء مؤمن بأي دين أو ملحد. والمقصود بالأخلاق الكريمة هو الرحمة والشفقة والمحبة والصدق والعدل والإنصاف والمروءة والإحسان والبر والعفو والأمانة والحلم والسماحة والتواضع وحسن المعاملة وحسن الجوار واحترام الغير، واحترام معتقدات الغير، وعدم هتك العرض، وعدم اغتصاب الأرض، وعدم التعدي على حريات الغير أو حقوقهم أو ممتلكاتهم. فكيف يكون الشرق متديناً وهذا كله يحدث وتكرر يومياً حولنا بالوطن الواحد، بل بكل بقعة من أوطان الشرق الإسلامي جميعاً!!!
كل الأديان تحث على الأخلاق الطيبة. إضافة لذلك أن الأخلاق الطيبة توجد أيضاً لدى أمم لا تؤمَن بدين. فهناك شعوب ودول لا تعتنق ديناً، أو لا تفرض أو تطبق ديناً بعينه، ولكن قوتها وقوة مواطنيها، وتقدمها وتقدم مواطنيها، وعزَّتها وعزَّة مواطنيها، تكمن في احتضان قوانين صارمة حازمة وحاسمة وعادلة لضمان الأخلاق الطيبة. وهنا يصدق قول أمير الشعراء المصري أحمد شوقي "إنما الامم هي الأخلاق ما بقيت، فان ذهبت أخلاقهم ذهبوا" وهنا أضطر أن أقول لشاعرنا المرحوم: إلى أين تذهب دول الشرق وقد وصلت إلى ما وصلت إليه، ولم ينتبه أحدٌ!!
كم أحلم، ويحلم معي ملايين الواعين من المسلمين وغير المسلمين، أن أرى مصر ذات الحضارة العريقة العظيمة مثل دول الغرب وشعوبه، وخاصة في احترام الأديان والمقدسات جميعاً. تحضرت تلك الدول على مدار سنين وعقود حتى تنصلت من قيود الدين في الحكم وفي الفكر حيث أدركت ما هو الصالح والأصلح وما يدفع الأوطان للأمام وما يجرها للخلف. فتفرغت للعمل والتصنيع والابداع، فالازدهار والاستقرار والتقدم، بل والأخلاق الطيبة والسلوكيات الإنسانية، تحت دساتير وقوانين تكفل العدالة بين الناس جميعاً سواسية "كأسنان المشط"!!! وفي ذات الوقت تحمي الأديان والمقدسات.
أحلم... ودائماً أحلم... ومن لا تراوده أحلام اليقظة إلى وضع أفضل فهو نصف مَيِّت!!
مهندس عزمي إبراهيـم

CONVERSATION

0 comments: